تَخيل أن القهوة يمكنها تَسلُّق جَوانب الفِنجان الذي وُضِعَت فيه! سيكون شُربُها في الصباح تحديا أليس كذلك؟ هذا يبدو مستحيلا، لكن إذا كانت الكأسُ مَملوءةً بالهيليوم السَّائل، والذي تَم تَبريده ليصِل إلى 270 درجة مئوية تحت الصفر، فهذا بالضبط ما سيحدث. سوف يتحول الهيليوم في هذه الدرجة إلى حالة المُيوعة الفَائِقَة (superfluidity).
لكن لكي نَفهَم المُيوعة الفائِقَة، وَجَبَ علينا أن نعرف ماهي اللُّزوجَة أولاً.
ماهي اللُّزوجَة؟
اللُّزوجَة هي مقياس لمقاومة السَّائل للتَّدَفق، وهي تُمثل الاِحتكاك الدَّاخلي للسَّائل المُتحرك. بالتالي، اللزوجة تعمل على تَبديد الطاقة الحركية له. والسًّائلُ ذو اللُّزوجة الكبيرة مثل العَسل يُقاوم الحركة، لأن التركيب الجُزَيْئي يَمنحُهُ الكثير من الاِحتكاك الدَّاخلي، بينما يَتدفق السَّائل ذو اللُّزوجة المُنخَفِضَة مثل المَاء بسهولة لأن تركيبته الجُزَيئِيَّة تؤدي إلى اِحتكاكٍ ضئيلٍ للغاية عندما تكون في حالةِ حركة، و يكون التَّنقل أسهل لسَائلٍ منخفضِ اللزوجة أكثر من سائلٍ عالي اللُّزوجة. ومثلاً إذا قُمت بصُنعِ دَوامة بواسطة ملعقتك في سائل ما، فإن الدَّوامة ستبقى لمدة أطول كلما كانت اللُّزوجة أقل. وللغازات كذلك لُزوجَة على الرَّغم من صُعوبة مُلاحظة ذلك في الظروف العادية.
ما هي المُيوعَة الفائِقة؟
ببساطة، السَّائل فائِقُ المُيوعة تكون لُزوجَتُه مُنعدمة، وبالتالي يَتدفق دون فقدانٍ للطاقة الحركية. هذا يعني أنه لا يوجد اِحتكاك داخلي بين ذراته، ولا تُوجد أي تصادمات، فتتحرك مع بعضها من غير أن تَصطدم أي ذرة بأخرى، ويُمكن تشبيه حَركتها بحركة سِربٍ كبيرٍ من الطُّيور أو الأسماك فتبدو كما لو أنها كائن واحد.
تم اكتشاف المُيوعَة الفائِقة بواسطة Pyotr Kapitsa و John F. Allen و Don Misener في عام 1937. حيث تَم تَبريد الهيليوم السَّائل لدَرجة حَرارة تبلغ 2.17 كلفن والتي تُعادل 270 درجة مئوية تحت الصفر، تُسمى هذه الدَّرجة بـ “نقطة لاَمْدَا” (lambda point)، يتحول فيها الهيليوم إلى سائل فَائق المُيوعَة. يُظهِر الهيليوم في حالة المُيوعة الفائقة خَاصيةَ التَّسلق، بحيث يتسرب من الوعاء الذي وُضِعَ فيه ويتسلق جُدرانه حتى إذا كَان مُغلقا بإحكام فإن السائل إذا وَجَدَ ثُقبا مِجهريا فَسَيَنسَلُّ منه، وهذا ما يَجعلُ من اِحتوائه عَمليةً صعبةً جداً.
كما أنه إذا قمت بعمل دوامة في كوب مليء بالسوائل الفائقة، فإن الدوامة ستستمر في الدوران الى الأبد، إلا إذا تم إيقافها! فالاِحتكاكات والتصادمات تُبطِئ حركة السائل العادي وغِيابُها في السائل فائق الميوعة يؤدي إلى اِستمرار الدوامة في الدَوران حتى ملايين السنين دون توقفٍ أو فقدانٍ لطاقتها الحركية.
تفسير الميوعة الفائقة
قَامَ الفيزيائي الروسي “دافيدوفيش لاندو” (Davidovich Landau) بتطبيق نظرية الكَمّ على حركةِ الهيليوم السائل فائق المُيوعة، وقد تَحصَّل على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1962 نتيجةً لإكتشافه، حيث رأى الهليوم -4- على أنه سَائل كمِّي بحيث تَتصرف ذَرَّاته كما لو أنها في نفس الحَالة الكُمومِيَّة، وحركاتُها تَرتَبطُ اِرتباطًا وثيقًا، مُعززةً بتلك الخَواص الفيزيائية للسائل.
تطبيقات الميوعة الفائقة
في مجال الكيمياء مُؤخرًا، تَمَّ اِستخدام الهليوم فائق المُيوعة بنَجاح في التقنيات الطيفية كَمُذيبٍ كُمومي، وهو ذو أهميةٍ كبيرة في دراسة جُزيئَات الغاز، لأن جُزَيئًا واحدًا من مادةٍ مُذابة في الهيليوم، يُتيح للجُزَيءِ التَّصرف تَماما كما كان في حالته الغازية. و هذا النوع من السوائلِ مُفيدة أيضًا لبعض الأَجهزة عالية الدقة، مثل الجيروسكوبات، وهي تسمَح بقياس بعض تأثيرات الجاذبية المتوقعة نظريًا.
في سنة 1998، اِستُخدِمَت السوائل الفائقة المُيوعَة في تَقليل سُرعة الضَّوء بشكلٍ كبير، في تَجربة أجراها لين هاو، تم تَمريرُ الضوء عبر السَّائِل، ووُجِدَ أَنه تَباطَأَ إلى 17 مترًا في الثانية (مقارنةً بحوالي 300،000،000 متر في الثانية في الفراغ).
وممَّا سبق، قَد يبدو للبعضِ أَنَّ هذه السَوائل فَائقة المُيوعة ليسَت سِوى نُقطة اِهتمامٍ علمية، لكنها عكس ذلك تماما، فعنصرٌ كيميائيٌ بسيط كالهيليوم كان السبب في إكتشافات ثَوريَّة غيَّرت وتُغيِّر مَجرى حياتنا، وتفتح أمامنا آفاقًا جديدةً.
تدقيق لغوي: أنس شيخ.
تصميم: رامي نزلي.
المصادر :
https://www.pbs.org/wgbh/nova/article/spacetime-might-superfluid-help-explain-gravity/
https://www.pbs.org/wgbh/nova/article/ultracold-atoms/
https://m.phys.org/news/2011-06-bizarre-quantum-superfluids.html
https://www.thoughtco.com/viscosity-2699336
https://www.newscientist.com/article/mg20627596-700-quantum-wonders-superfluids-and-supersolids/
https://www.newscientist.com/article/2118788-exotic-black-holes-caught-turning-into-a-superfluid
Landau’s Major Contribution to Physics: A Brief Overview
C Sivaram and Kenath Arun
Indian Institute of Astrophysics, Bangalore
https://www.nobelprize.org/prizes/physics/1962/landau/facts/