في إحدى أَحْلَكِ ليالي الحرب الباردة، وعندما كانت أجهزة الإنذار تُشير إلى خمسةِ صواريخَ باليستيّة نوويّة تتّجه نحو موسكو، يُقرِّر ضابط المُناوبة السُّوفييتي بيتروف ألَّا يفعل شيئًا، فيُجنِّب العالم بذلك أَوْزَارَ حربٍ عالميّة نوويّة. ماهي تفاصيل تلك اللّيلة العَصيبة؟ هذا ما سنعرفه في هذا المقال.
الرُّعـــب النّـــــووي
نحن في بداية الثّمانينيات، في إحدى أَحلَكِ حِقبِ الحرب الباردة بين المُعسكر الشّرقي والغربي، مضى 22 عامًا على أزمة الصّواريخ الكوبيّة، عندما كان العالم أٌقربَ من أيِّ وقتٍ إلى حربٍ نوويَّة عالميّة، عندما كان العالم على حافّة الهاوية. الرّئيس الأمريكي رونالد ريغن يَصِفُ الاتّحاد السُّوفييتي بأنّه “إمبراطوريّة الشر”، ويعملُ على توسيع التِّرسانة النَّوويّة الأمريكيّة بسُرعةٍ كبيرة. كان السّباق نحو التسلُّح النّووي على أشُدِّه، في سبتمبر 1983، الاتّحاد السّوفييتي يُسقِط طائرةً يُشتَبهُ في كَوْنِهِا طائرة تجسّس أمريكيّة، بعد دُخولها الأجواء السّوفييتية. اتّضح أنّها الرّحلة التّجاريّة 007 للخُطوط الجويّة الكوريّة، حيث قُتِلَ جميع من كان على متن تلك الرّحلة. كان التوتّر في أَوْجِه، حيث مازال شبح الحرب العالميّة النّووي يُخيِّم على العالم، الحرب التي ستُعيدُ البشريّة إلى ما قبل الحضارة.
فجــأةً، خمسةُ صواريخَ نوويّة أمريكيّة تتَّجِه نحوَ موسكو!
في ليلة 26 سبتمبر 1983، كان ضابط المُناوبة ستانيسلاف بيتروف (Stanislave Petrov) يعملُ في قيادة مركز أوكو (oko)، وهو نظامٌ روسي للإنذار المُبَكِّر ضدَّ الهجمات النّوويّة، يتكوّن من مجموعةٍ من الأقمار الصّناعيّة التي كانت تُراقب الولايات المتّحدة. نظام أوكو للإنذار المُبَكِّر يكشف عن صاروخٍ نووي تمَّ إطلاقه من الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تَبِعَتهُ 5 إنذارات أُخرى. كانت البروتوكولات العسكريّة آنذاك تَقتَضي أنْ يُبلِّغ بيتروف القيادات العُليا، وذلك ليَتسنَّى للاتّحاد السّوفييتي الردّ بقوّة على هذا الهُجوم باستخدامٍ مُماثل للأسلحة النّوويّة، لكنَّ بيتروف لم يُحرِّك ساكِنًا! كان هذا يُعتبر مُخالفةً لأحد أهمِّ البروتوكولات وأكثرِها حساسيّةً، إذْ أنَّ الأمرَ يتعلّق بالأمن القومي لدولةٍ عُظمى، و تَعَرُّضِها لهجومٍ من طرف عدوِّها اللّدود، الولايات المتّحدة الأمريكيةّ، وباستخدامِ أسلحة دمارٍ شامل. كان بيتروف بهذا يُقوِّضُ بل يُجَرِّدُ بلاده من استراتيجيّة الرّدع النّووي.
نظـريّة الرّدع النّـووي: إذا أردتَ السّـلام، فاستعـدَّ للحرب!
في قاموس الاستراتيجيّات النّوويّة، تَتّخذ نظريّة الرّدع النّووي أو (Nuclear Deterrence Theory) مكانةً مِحوريّة. وتقوم هذه النظريّة على أنَّ تهديدَ واحتمالَ استعمال كيانٍ ما للسّلاح النّووي بقوّة، ضدّ كيانٍ مُعادٍ، يُمنَع استعمالُ الكَيان المُعادي أيضًا لسِلاحه النّووي ضدّ الأوّل. ولقد تعزّزت نظريّة الرّدع النّووي كعقيدةٍ تَعتنقُها الدّول العُظمى إبَّان الحرب الباردة. فعَدَمُ امتِلاك هذه القُدرة يجعل المُعتدي قادِرًا على شنِّ هجوم نووي، في غارة كاسِحة واحدة، ضدّ الأسلحة النوويّة للخصم ما يجعلُه في حالة شللٍ دفاعي وهُجومي.
تَرْتَكِزُ نظريّة الرّدع النّووي على عِدّة نقاط أهمُّها القدرة على الهجوم المضاد (Retaliation Capability) وهي التّمتُّع بالقُدرة على القيام بهُجوم مُضاد نووي قوي و فعّال ضدّ المُعتدي. يُعزّز القُدرة على الهَجمة الثّانية مفهومُ الفشل-المُميت أو (Fail-Deadly)، والذي يضمن ردًّا مُباشرا، آليًّا، شاملًا على أيّةِ هُجوم حتّى ولو لم يكُن هُنالك شخصٌ يضغط على الزِّناد فِعليًّا.
قد يقول قائلٌ أنَّ نظريّة الرّدع النّووي هي دفاعيّة بالأصل، فلماذا كلُّ هذا القلق؟ في الحقيقة، الكابوس الحقيقي الذي يخشاه الجميع يَحْدُثُ في حالةِ قرَّر أيُّ طرفٍ الهُجوم. فعِندها ستتحوَّل هذه الاستراتيجيّة إلى ما يُسمَّى التّدمير الحتمي المُشترك أو (Mutual Assured Destruction)، و هو الكابوس الذي عاشَ هاجِسَه العالمُ بالفِعل خِلال الثّلاثة عشرَ يومًا من أزمة الصّواريخ الكوبيّة.
ضـابطٌ عسكري بتكـوينٍ مَدني… الرّجـل الذي أنقـذ العالم!
في حديثه إلى قناة البي بي سي سنة 2013، يقول بيتروف «كانت لديَّ كلُّ البيانات التي تُشير لهجوم نووي صاروخي. لو أرسلتُ تقريري إلى سلسلة القِيادات الأعلى، لم يكُن أحدٌ ليعترض عليها… دَوَّت صفّارات الإنذار، فجلستُ لِثواني أُحدِّق في الشّاشة الحمراء الكبيرة التي كُتِبَ عليها “إطلاق”. بعد دقيقةٍ من سُكوت صفّارات الإنذار، ظهر إنذارٌ بصاروخٍ ثانٍ، بعدها ثالث، رابع، ثمّ خامس. غيَّر الكمبيوتر حينها تلك العبارة من “إطلاق” إلى “هُجوم صاروخي”… لم يكن هُنالك تعليمةٌ تنصُّ على المدّة المُستغرقة في التّفكير قَبلَ الإبلاغ عن أيّ هُجوم، لكنّنا كُنّا نعلم أنّ كُلّ ثانيةٍ نتأخّر فيها كانت تُمثّل وقتًا ثمينًا». تردّدَ بيتروف قبلَ أن يتّصل بمقرّات الجيش الأحمر ويُخبرها أنّ هُنالك “خللًا في النّظام”، بعد أيّام، وإثرَ تحقيقاتٍ تمّ إجراءُها، تعرّض بيتروف إلى التّوبيخ، ليس بسبب تصرُّفه، ولكن لأنّه لم يُدَوِّن ماحدث في تلك الليلة على السّجلّات كما ينبغي.
هل كان مُتأكّدًا من أنّ الإنذار خاطئ؟ أجاب الضّابط المُتقاعد في نفس الحوار، أي بعد مُرور ثلاث عُقود على الحادثة، أنّه يعتقد أنّ الحُظوظ كانت 50/50! لم يكُن مُتأكِّدا أبدًا من أنَّ الإنذار خاطِئ! ويقولُ أنّه الضّابط الوحيد الذي تَلقّى تعليمًا مدنيًّا بين زُملاءه، وأضاف «كلُّ زملائي كانوا جُنودًا مُحترفين، لقد تمَّ تدريبهم على إعطاء وتنفيذ الأوامر»، يعتقد بيتروف أنّه لو كان أيّ ضابطٍ آخر مكانه في المُناوبة لدَقَّت أجراس الإنذار تلك اللّيلة، مُعلنةً ربّما بداية الحرب العالميّة الثّالثة!
ظَلَّ بيتروف صامِتًا طيلة عشر سنوات، حيث قال «لقد كان أمرًا مُحرجًا جدًّا للاتّحاد السّوفييتي أنّ أنظمتنا فشلت بذلك الشّكل الخطير». لكنْ بعد انهيار الاتّحاد السّوفيتي، خرج الرّجل عن صمته، أينَ وَصلت قِصّتُه إلى الإعلام.
هل فعـلًا بيتــروف أنقـذ العـــالم!
في حديثه لمجلّة بيزنس إنسايدر، بافل بودفيغ (Pavel Podvig)، مُدير مشروع القِوى النّوويّة الرّوسي، وأحدُ أبرَزِ الخُبراء العالميِّين في المجال النّووي، صَرَّحَ أنَّ بيتروف قام بعملٍ شُجاع، إلَّا أنّه ليس مُؤكَّدًا أنّه قد جَنَّبَ العالمَ حربًا نوويّة! حسب الخبير الرّوسي، ذلك لأنّ بيتروف كان يعملُ على القطاع الفَضائي من نِظام الإنذار المُبكِّر بالهَجمات النَّوويّة، وهو واحدٌ من عِدَّة قِطاعات في سِلسلة الأوامر النّوويّة الرّوسية. أيْ أنّه حسب الإجراءات السّوفييتيَّة، لمْ يكُن ليَتِمَّ شنُّ الهُجوم المُضاد فور الإنذار، بل أنّ هُنالك خُطُوات أُخرى كانت ستُتَّخذُ قبل ذلك، فلقد كان السّوفييت مُوقنين بالمخاطر الكبيرة للحرب النّوويّة، لذلك احتمالُ الإنذار الخاطئ لم يكُن مُستبعدًا، إلَّا إذا وَقع التّفجير النّووي فِعلًا. يُضيف بودفيغ أنّ رادارات بيتروف بَيّنت 5 صواريخ أُطلِقت من طرف الولايات المُتّحدّة. وفي ذلك الوقت، سنة 1983، كانت الولايات المُتّحدة تمتلك أكثر من 20.000 صاروخًا نوويّا جاهزًا. مِن جِهةٍ أُخرى، كانت تنتشُر عبر الأراضي الشّاسعة للاتّحاد السّوفييتي مئات الصّواريخ، أي أنّه كان على الولايات المُتّحدة ضربُ كلِّ تلك المواقع لتَجنُّب ردّة الفعل السّوفييتية. لذلك، إطلاقُ الولايات المُتّحدة خمسةَ صواريخ على موسكو كان كفيلًا بتحويلِها إلى رماد، لكن كان سيتبَعُه تدميرٌ كُلِّي للولايات المُتّحدة الأمريكيّة في الهُجوم المُضاد، وهو ما يُعَدُّ ببساطة هجومًا لا معنى له. ثم يُردِف بودفيغ قائِلًا «لا أحدَ يُهاجِم بخمسة صواريخ نوويّة!»
لم تَصِل قِصّةُ تلك اللّيلة العصيبة إلى العالم إلّا سنة 1998، عندما ذُكر بيتروف من طرف قائدٍ سوفييتي مُتقاعد في الدّفاع الصّاروخي في أحد مُذَكِّراتِه. سنة 2006 اسْتَلَمَ في نيويورك جائزةً تقديرًا لعَملِه من طرف جمعيّة مُواطني العالم، سنة 2013، تَلَقَّى جائزة درسدن للسّلام. في 2014، قام المُنتج جاكوب ستابرغ بإنتاج فيلم وثائقي-درامي يحكي قِصّة الرّجل تحت عُنوان “الرّجل الذي أنقذ العالم”. تُوُفِّي بعدها بيتروف في 19 ماي 2017 في روسيا.
هل أَنقذَ بيتروف العالم أم لا؟ سَواء اختلفْنَا أم لم نَختلفْ في كَونِ ستانيسلاف بيتروف بطلًا أنقذَ العالم، لاشَكَّ أنّه كان قد قام بالخَيار الصّحيح و الشُّجاع في تلك اللّيلة. لكن عِندما سُئِلَ ما إذا كان يَرى نفسه بَطلًا، قال بيتروف «لا، ذلك كان واجبي… لكنّهم كانوا مَحظوظين أنّني كُنتُ في المُناوبة تلك اللّيلة!»
المراجع : (1) ، (2) ، (3) ، (4)
تدقيق لُغوي: لبصير جميلة
تصميم: رامي نزلي