لِقراءة المقَال السَابِق في السِلسِلة : سلسة الوعي(1): ما هو الوعي؟
هل يمكن أن يتأخَّر الوعي عن أحداث العالم الواقعي؟ ظهر هذا السؤال المحيِّر من واقع الأبحاث التي بدأها في ستينيات القرن العشرين عالمُ الأعصاب« بنجامين ليبيت».
أجرى ليبيت أُولى تجاربه على مرضى تعرَّضَ سطحُ أدمغتهم لجراحةٍ ضرورية، وقد صرَّحوا له بتحفيز هذا السطح باستخدام أقطاب كهربيَّة، كان معروفًا منذ فترةٍ طويلةٍ أن منطقة الدماغ المسمَّاة القشرة الحسيَّة الجسديَّة تحتوي على خريطة للجسم، وأن تحفيز أيِّ جزءٍ منها يؤدِّي إلى الإحساس كما لو أنَّ الجزء المرتبط به من الجسم قد تمَّ لمسه؛ فإذا تمَّ تحفيز القشرة الحركية يتحرَّك جزء من الجسم، وإذا تمَّ تحفيز القشرة البصريَّة تتمُّ رؤية أشياء، وهكذا.
استخدم ليبيت سلسلةً من عمليات التحفيز الكهربية المختلفة في الطول بَدءًا من بضعة ملِّي ثوانٍ وحتى أكثر من ثانية واحدة، وتوصَّلَ إلى مايلي: مع تعرُّضِ المرضى لسلاسل قصيرة من النبضات الكهربية، لم يشعروا بأيِّ شيء، لكن مع التعرُّضِ لنوبات أطول، ذكروا أنهم شعروا بشيء كلمسة على أذرعهم، أدرك ليبيت أن الأمر احتاجَ نصفَ ثانيةٍ من التحفيز الكهربي المستمرِّ حتى بَدَا الأمر كما لو أنَّ التجربةَ الواعية حدثَتْ، لقد كان التفسير الأكثر وضوحًا هو أنَّ إنتاج الوعي يحتاج إلى نصف ثانية من نشاط الخلايا العصبية، وأطلق ليبيت على هذا «كفاية نشاط الخلايا العصبية المطلوبة للوعي».
إن كنت تظن أن تفسير ذلك التأخر في الوقت ناتج عن الوقت اللازم لمعالجة الإشارات العصبية في الدماغ حتى يشعر الشخص بها، فأنت إمَّا أمام فرضية وجود مكانٍ في الدماغ تتقابل فيه الأحداث المادية مع الأحداث العقلية، وإمَّا أمام فرضية تحوَّل العمليات غير الواعية إلى وعي على نحوٍ سحري، غير أنَّ الأمر أعقد ممَّا نتصور كما في التجربتين التاليتين:
تجربة الساعة والأرانب
تخيَّلْ أنك جالس تقرأ أحد الكتب، وبينما تقلِب الصفحة تدرك أنَّ الساعة تدق، منذ لحظة لم تكن واعيًا بالدقات، لكن الآن وفجأةً دخلَتْ تلك الضوضاء دائرة وعيك؛ في تلك اللحظة، يمكنك تذكُّر الأصوات التي لم تكن تستمع إليها، وعَدُّ الدقات التي لم تسمعها، وأنت ستستمر في الاستماع حتى تَجد أنها الساعة السادسة، إنَّ مثل هذه التجارب معتادة جدٍّا لدرجة أننا نميل لتجاهلها، لكنها تستحق أن نفكِّرَ فيها على نحوٍ أكثر إمعانًا.
هناك تجربة أخرى حيث يمدُّ الشخصُ ذراعَه وينظر إلى الاتجاه الآخَر بينما ينقر القائمُ بالتجربة على ذراعه، في التجربة الأصلية، تمَّ استخدام آلة للنقر، لكن يمكن إحداث نفس التأثير باستخدام نقرات مُنتَجة بعناية باستخدام قلمِ رَصاص مسنون؛ الأمر المهم هو أن تنقرَ على فترات متساوية بدقةٍ وبضغطٍ متساوٍ خمس مرات في الرُّسْغ، وثلاث مرات بالقرب من المرفق، ومرتين بالقرب من الكتف. ما الذي سيشعر به هذا الشخص؟ على نحوٍ غريبٍ بشكل كافٍ، سيشعر بسلسلة من النقرات تنتقل بسرعة من الرُّسْغ إلى الكتف ليس في ثلاث مرات منفصلة، لكن كما لو أن أرنبًا صغيرًا يقفز بطول ذراعه؛ ومن هنا جاءت التسمية «الأرنب القافز».
إنَّ هذا التأثير غريب ويجعل الناس يضحكون، لكن الأسئلة التي يثيرها مهمة؛ فكيف يعرف الدماغ مكان النقرة الثانية والثالثة والرابعة عندما لم تكن النقرة على المرفق قد حدثَتْ بعدُ.
تجربة القيادة دون وعي:
ما المقصود بالانتباه؟ بعدَ العديد من المجادلات والتجارب اتضح أنَّه لا أحدَ يعرف المقصود بالانتباه، حتى إنَّه لا توجد عملية واحدة بهذا الاسم يمكن دراستها؛ فالانتباه أحدُ جوانب الوعي الذي يبدو واضحًا وسهلَ الفهم للوهلة الأولى، لكنَّه يزداد غرابةً كلما تعمَّقْتَ في التفكير فيه، تتمثَّل أكثر الطرق البديهية في التفكير في الانتباه في النظر إليه ككشَّاف ضوء يمكن أن تركِّزَه على بعض الأشياء، مع ترك أشياء أخرى في الظلام؛ أحيانًا يُستخدَم هذا الكشافُ ضدَّ إرادتنا بواسطة ضوضاء عالية أو شخصٍ ينادي على اسمنا.
توضِّح ظاهرة القيادة دون وعي على نحوٍ بارزٍ تلك المشكلةَ؛ إنَّ أي شخص أصبح سائقًا بارعًا ربما مرَّ بهذه التجربة الغريبة؛ فأنت عندما تقود سيارتك في خط سير وطريق مألوفَين لك متوجِّهًا إلى العمل أو المدرسة أو منزل صديق، و أثناء قيادتك تبدأ في التفكير في شيء آخَر، وفي وقت سريع جدٍّا، تصل إلى وجهتِكَ؛ إنَّك تعي وصولك إلى المكان المعين، لكنْ يمكن ألَّا تتذكَّرَ أيَّ شيء على الإطلاق بشأن هذه القيادة؛ فيبدو الأمر كما لو أنك غير واعٍ تمامًا بالعملية كلها، حتى إن كنتَ منتبهًا تمامًا طوال الوقت، ومن الطبيعي أنَّ قيادة السيارة تحتاج إلى مهارات تتطلب تنسيقًا معقَّدًا بين البصر والسمع والتحكُّم الحركي وعملية اتخاذ القرار وغير ذلك؛ لهذا فإن النقطة المهمة هنا ليسَتْ أن الدماغ لم يكن يُولي أي انتباه للمهمة، وإنما أنَّه كان يقوم بتلك المهمة بشكلٍ آليٍّ ولم تكن واعيا بها، يبدو الأمر وكأنَّ كلَّ هذا النشاط كان يتم من دونك.
كما أوضحنا سابقا، لا يوجد معالج مركزي تحدث فيه التجارب الواعية، غير أنَّه يجب أن يكون هناك اختلاف مهم بين الوعي و اللاوعي، والسؤال الآن: ما هو هذا الاختلاف؟ هذا ما يجب على كلِّ نظرية صحيحة خاصة بالوعي أن تشرحه. حان الآن الوقت لاستعراض بعضِ أشهر النظريات الخاصة بالوعي، ومعرفة كيف تتعامل مع هذا الاختلاف المدهش.
نظريات الوعي:
كل النظريات تندرج تحت نوعين من النظريات: إما نظريات ثنائية تفصل بين العقل والروح، وإما نظريات تقوم على عجائب الفيزياء الحديثة.
نظرية الثنائية: هناك عددٌ قليلٌ جدٍّا من الفلاسفة أو العلماء الذين يرون أنها يمكن أن تكون صحيحة؛ فالمثال الحديث الوحيد لنظريات الوعي القائمة على تلك الفكرة هو التفاعلية الثنائية التي اقترَحَها «بوبر وإيكلز» في سبعينيات القرن العشرين، فقد قالَا بوجود عقل غير مادي واعٍ بذاته منفصل عن الدماغ المادي غير الواعي، وهذا العقل قادر على التأثير على الدماغ التابع له من خلال تفاعلاتٍ دقيقةِ التوازنِ تحدث عبر مليارات الوصلات بين الخلايا العصبية، لكن هذه النظرية لا تقدم تفسيرًا مُرْضٍ لكيفية تفاعل هذا العقل المستقل مع العالم أو الدماغ.
النظرية المادية: تعتمد على الحوسبة الكمية في« الأنيبيبات الدقيقة Microtubules» (أكبر مكونات الهيكل الخلوي توجد في سيتوبلازم خلايا حقيقية النواة و في بعض أنواع البكتيريا)، يرى اختصاصيُّ التخدير«ستيوارت هامروف» والرياضي السير« روجر بينروز» أن الأنيبيبات الدقيقة الموجودة في كل الخلايا الدماغية ليست العناصر التركيبية البسيطة التي عادةً ما نظنُّها كذلك، فهي مصمَّمة لكي تسمح بالتماسك الكمي والاتصالات الكمية على مستوى الدماغ، وهذا يفسِّر وحدةَ الوعي وإمكانية وجود إرادة حرة، غير أنَّ هذه النظرية لا تفسِّر كيف يمكن أن تحدث التجارب الذاتية الشخصية، ويخلص العديد من الأشخاص إلى أن كلَّ ما تفعله النظرياتُ الكمية للوعي هو استبدال لغزٍ بلغزٍ آخَر.
حتى الآن لا توجد أي نظرية يمكنها حلُّ اللغز الأساسي للتجربة الذاتية، إنَّ كل تلك النظريات تقبل بالافتراض الأساسي القائل بأنَّه في أي وقت محدَّد يكون عدد قليل من الأشياء داخل مسرح أو تيار الوعي، في حين أنَّ الأشياء الباقية تكون خارجه، لكنها لا تستطيع تفسير كيف يمكن لأي شكلٍ من أشكال النشاط الدماغي المادي أن ينتج تيارًا من التجارب الواعية.
المصدر: كتاب مقدمة قصيرة جدا عن الوعي للبروفيسور سوزان بلاكمور-Susan Jane Blackmore
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي