كُنا نعتقد أنّ الموت عبارة عن”لحظة”. نصاب بصدمة عندما تكون نهاية شخص عزيز مأساوية سواءًا كان ذلك في الحياة الحقيقية أو في عرض (تلفزيوني أو سينيمائي) نفضله. وفي الواقع، غالبًا ما يكون الموت عملية طويلة وشاقة تتراوح بين العلاج، المستشفيات، وفي النهاية مأوى رعاية المحتضرين. وبطبيعة الحال، يمكن أن يفاجئنا الموت دون سابق إنذار. ولكن العلوم الطبية قد تقدمت إلى درجة أننا لا نفكر في الموت باعتباره لحظة ولكن كعملية.
فهل يعني ذلك أننا نستطيع إبطائه أو حتى إيقافه؟ وفقًا للدكتور Sam Parnia في كتابه “Erasing Death“، يتم استخدام تقنيات جديدة والتي بامكانها أن تنشط الجسم والدماغ. كما يعتقد أيضًا أن الموت يمكن أن يكون يومًا ما قابل للانعكاس.
أجرى الدكتور (Parnia) دراسات حول الإنعاش “المستدام”. ويقول بأن المرضى يُمكن أن يُعادوا إلى الحياة فقط باستعمال الإِنْعاشُ القَلْبِيُّ الرِّئَوِيُّ (CPR-Cardiopulmonary resuscitation) بعد ساعات من توقف قلبهم عن الخفقان، ودون أي ضرر دائم في الدماغ. ودرس أيضًا تجارب الاقتراب من الموت وتجارب الخروج من الجسد لمعرفة ما إذا كانت تحوز على أسرار طبية، التي يمكن استخدامها لمعرفة أمور عن هذه الحالة. فيتساءل الدكتور (Parnia): هل يمكن أن تدل تجربة الاقتراب من الموت على انعاش الدماغ؟
وقال الدكتور (Parnia) لـ(Terry Gross)، مقدمةبرنامج Fresh Air في إذاعة National Public Radio- NPR: “لم تكن لنا أبدًا طريقة موضوعية لتجاوز عتبة الموت ودراسة ما يحدث بيولوجيًا، ومن وجهة نظر عقلية ومعرفية”، وأضاف: “لذلك فإن كل ما نتعامل معه هو أساسًا إشاعات ومعتقدات الناس”.
وفي تجاربه، توصل الدكتور (Parnia) إلى أن تبريد الجسم بضع درجات مئوية يمكن أن يبطئ فعلًا معدل موت الخلايا، وبالأخص الخلايا العصبية في الدماغ. لم يكن الدكتور (Parnia) الوحيد الذي قال بهذه النتائج. ففي الواقع، فإنّ عددًا متنوعًا من الإخصائيين الطبيين يميلون نحو طب إطالة العمر.
يرتكز عمل عالم الأحياء (Mark Roth) في Seattle’s Fred Hutchinson Cancer Research Center على الحيوانات كعينة للاختبار بتعريضها لغيبوبة. الفكرة هي أنّه يمكن وضع المريض الذي يمر بنوبة صحية في حالة معلقة كالسبات، حتى يتمكن أو تتمكن من الاستقرار وهكذا يتجاوز النوبة.
بالرغم من أننا نميل إلى لفظ أنفاسنا الأخيرة عندما يكون مستوى الأكسجين منخفضًا، تدخل العديد من الحيوانات في حالة غيبوبة في البيئات ذات المستوى الضعيف جدًا من الأكسجين. في المختبر، يجب على المرء أن يدخل إلى مثل هذه البيئة بسرعة. يعمل (Roth) حاليًا مع الديدان الخيطية، ويتوقع أن تُحفز أبحاثه للعمل على البشر في نهاية المطاف.
تُعتبر الحالَة الإِنْباتِيَّة (vegetative state) المنظر الآخر لما نعتبره المنطقة الرمادية بين الحياة والموت. من الناحية الطبية، يدخل المريض إلى الحالَة الإِنْباتِيَّة عندما يحدث ضرر كاف للدماغ، حيث يكون الشخص غير واع ومدرك ولا يستطيع أن يستجيب لمحيطه. قد يتنفسون، تخفق قلوبهم، يحركون عيونهم، وحتى أنهم قد يظهرون ردود الأفعال، لكن لا يستطيعون أن يستجيبوا للمؤثرات ولا يتفاعلون مع محيطهم. يعمل جذع دماغهم بشكل عادي، ولكن الأجزاء الأخرى من الدماغ قد تكون معطوبة أو غَيْرُ قابِلة للجِرَاحَة. معظم المرضى الذين يدخلون هذه الحالة لا يخرجون منها أبدًا.
مؤخرًا، ظهرت حالة غريبة استفزت الباحثين بخصوص تصورهم لهذه الحالة. “استيقظ” رجل يبلغ من العمر 35 عامًا بعد أن كان في حالة إنباتية لمدة خمسة عشر عامًا. في هذه الدراسة، التي نُشرت مؤخرًا في جريدة Current Biology، وجد الباحثون الفرنسيون وسيلة لاستعادة بعض الوعي لمريض، هذا إنجاز كان يُعتبر مستحيلًا سابقًا. كان يُعتقد أنّ المرضى الذين يمرون بهذه الحالة لمدة عام أو أطول لا يمكن إنعاشهم.
فحوصات لدماغ أحد المرضى استيقظ من الحالة الانباتية بتحفيز العصب المبهم (Current Biology):
مصدر الصورة: http://bigthink.com/philip-perry/science-is-starting-to-explore-the-gray-zone-between-life-and-death
كانت (Angela Sirigu) الباحثة الرائدة. تمكنت هي وزملاؤها من (Institut des Sciences Cognitives Marc Jeannerod) بمدينة ليون الفرنسية من تحقيق هذا الإنجاز من خلال تحفيز العصب المبهم، وهو أحد أطول الأعصاب في الجسم. ينتقل من جذع الدماغ على طول نحو المعي فيربط خلال ذلك معظم الأعضاء الأساسية (في جسمنا).
خلافًا لما نراه في الأفلام، حيث يستيقظ المريض من سباته بأعجوبة بعد سنوات من كونه طريح الفراش وغير مستجيبًا للعلاج، تقول (Sirigu) وزملاؤها أن هذه العملية تدريجية. قام الباحثون بإجراء اختبارات مختلفة لتقدير وعيه.
اتسعت عيون الرجل عندما اقترب منه شخص فجأة، كما لو أنه اعتبر ذلك الشخص كخطر و تهديد. كما كان قادرًا على البقاء مستيقظًا لفترات أطول عندما قرأ له أحد الأشخاص كتابًا. وتمكن من متابعة الأشياء بعينيه أو تحريك رأسه عندما طلب منه ذلك. تشير هذه الأدلة وكذا التصوير الدماغي أن تقنيتهم تجني النتائج.
يتم استخدام تحفيز العصب المبهم بالفعل لعلاج الاكتئاب، والصرع، واضطرابات أخرى. وهو ينشط مسار “noradrenergic” الذي يحفز اليقظة ويمكن حتى أن يثير تَفاعُلُ المُحارَبَةِ أَو الفِرار.
يعترف الباحثون بأنّ لديهم معلومات ضئيلة عن الكيفية والسبب الذي ساعد على صحوة المريض من الحالة الانمائية التي كان عليها لمدة. ومع ذلك، قد تُغير هذه الدراسة كيفية رعاية المهنيون الطبيون لأولئك الذين دخلوا في مثل هذه الحالات. وقالت (Sirigu): “كلما كنا قادرين على تحفيز (العصب المبهم) مبكرًا، كلما كنا قادرين -مبكرًا- على التدخل في وظائف الجسم واستعادة التوازن الفسيولوجي نوعًا ما”.
تتعدى هذه الدراسة عن كونها لإثبات صحة مفهوم. فهناك حاجة ماسة إلى عينة أكبر. تقول (Sirigu) أنها وزملاؤها يضعون خطة لمتابعة الموضوع على أوسع نطاق في الوقت الحاضر. هذه ليست سوى البداية.
الأهم من ذلك هو أن تترك النزعة العاطفية جانبًا، تم جلب المريض من الحالة الإنمائية إلى حالة من الوعي في حده الأدنى، مما يعني أنه ليس بالشفاء الكلي. حتى ولو تم تكرار هذه النتائج مع حالات أخرى من نفس القبيل، فسوف تكون هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات للكشف بالضبط عن كيفية تحقيق هذه التقنية للنتائج.
ما زلنا بعيدين جدًا عن اليوم الذي تكون فيه العلوم الطبية قادرة على اتخاذ الخطوة التالية واستعادة المريض بشكل كامل. لكن من المحتمل أنّ هذا اليوم سيأتي.
لمعرفة المزيد عن المناطق الرمادية بين الحياة والموت، تابعوا هذا الفيديو:
المصدر: Bigthink
تدقيق لغوي: لمونس جمانة