ماهي الرغبة في الأبدية؟ وماهي منابعها العاطفية والعقلية؟
علينا أن نعرف أنّ الأبدية ليست زمنا لا ينتهي، بل هي سمة ماهو خارج عن الزمن .
-الرفض العاطفي للزمن:
ينبعث الهوى من رفضنا للزمن، فهو بالنسبة لوعينا حالة انقطاع التوازن نرفض بواسطته أن نعي ما سيكون المستقبل عليه ونتائج افعالنا ورد فعل ميولنا، اذ الأهم بالنسبة للعاشق هو لقاء حبيبته، والأهم بالنسبة للسكير هو شرب الخمر، وبالنسبة للمقامر هو الاسراع للكازينو، لكن غدا هاهو العاشق في حالة كآبة، والسكير في حالة مرض، والمقامر في حالة فقر، فقد ضحوا لصالح الاغراءات الآنية ويتهم الثلاثة الهوى بخداعهم وانهم استسلموا لميولات أعمق.
ويعلِّمنا علم النفس التحليلي أنّ انفعالات طفولتنا تتحكم وأنّ أهوائنا تصدق الى استعادتها، فهناك ذكريات ملازمة كمشاهد من الماضي تهيم داخلنا و تعود تسيطر على وعينا الذي تراوده بطابع لا ارادي، فمثلا طعم حلوى الطفولة أو شمُّنا لرائحة شممناها في صغرنا يذكرنا بتجربتنا في الماضي و يجعلنا نظن أننا نعيش في مرحلتين من حياتنا في آن واحد ونشعر ونختبر أننا خالدون.
و التعود أيضا يرفض الزمن لأن الماضي فيه يظهر بمثابة حاضر فيتخذ صورة الأبدية و ينفي التغيير.
الوعي البشري هو وعي وادراك لماهو غائب كالانتظار والأمل والحسرة والندم والحلم، واللامتناهي والقيمة موجودان بنظرنا بما أننا نعتبر انطلاقا منهما أنّ لحظات حياتنا قصيرة جدا وغرائز طبيعتنا جد دنيئة والأشياء المحدودة والزمنية صغيرة للغاية، ومن هنا تتجلى ازدواجية الانسان الطبيعية والماورائية، لهذا يقول باسكال: “إنّ عظمة الانسان لا يمكن أن تُدركَ موضوعيا”.
-المنبع العقلي للخلود:
وعقلنا مثل قلبنا لا يمكن أن يقبل بالتغيير، فالتغيير يتكون من بدايات ونهايات، من ظهورات واختفاءات، وإنما كل بداية تهين العقل فهو لا يستطيع تصور أنّ ما لم يكن موجودا يبدأ بالتواجد وأن يخرج شيء من لاشيء، كما أنه لا يمكن أن يتصور أنّ ما كان موجودا يختفي من الوجود و أن يكون كل شيء كما لو أنّ ما كان لم يكن أبدا.
والاستمرارية ليست معطى مباشر بل هي نتيجة الجهد الذي يبذله الفكر لادخال وحدته الخالدة في الأشياء و التنظيم النغمي للزمن،فلا يمكن تصور الزمن إلا بالنسبة للأبدي، ولا يمكن تصور الأبدي نفسه إلا مقابل التعددية الزمنية، لا يقتصر العالم اذن على الزمن و لا على الأبدية بل ينجم عن هذا الانصهار بين التعاقب و الوحدة.
نختم بحكمة ديكارت القائلة: “إنّ جوهر الانسان هو إرادته،و إن رفض الزمن و الحنين الى الماضي و حب الأبدية،كل ذلك ليس سوى محاولات للهروب من أمام مهماتنا، وحدها مساعينا الزمنية يمكنها أن تعبّر عن إخلاصنا للعقل الأسمى”.
المصدر:كتاب التوق الى الخلود لفرديناند ألكيه
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي