توجد الكثير من النظريات التي تُرجع نشأة الأمراض السيكوسوماتية إلى عوامل نفسية في الأصل، بينما تتخذ أعراضا جسدية واضحة وظاهرة يمكن الكشف عنها من خلال الفحص الطبي، وقد اخترنا أن نتحدث في هذه التدوينة عن بعض النظريات التي تحدثت عن عوامل مهمة جدا في لعب دور السببية لهذه الاضطرابات وهي كالتالي:
- عوامل متعلقة بالوراثة: حيث نجد أنه هناك إصابات منتشرة بين أفراد العائلة وهذا ما يجعل الباحثين يُرجعون نسبتها إلى الوراثة، أي من خلال الاستعداد الوراثي الذي يؤثر إما على الضعف النوعي أو النشاط الزائد للأجهزة العضوية للفرد عند الإستجابة للضغط فيما بعد، كما يمكن أيضا أن تحدث بتأثير العوامل المؤثرة على نمو الجنين والظروف المحيطة بالحمل والولادة، فالجنين داخل الرحم يتأثر بالحياة الانفعالية للأم وبالحالة الجسمية لها وبالبيئة الداخلية والخارجية، فأي اضطراب للأم ينعكس على الجنين، وما يحدث أثناء الحمل غالبا ما يلزم الطفل بعد الولادة ليستمر معه مدى الحياة، وتُعتبر هذه العوامل مهيئة للإصابة العضوية ولكن لا تعمل لوحدها في إنتاج هذه الاضطرابات.
- اضطراب علاقة الطفل بالوالدين: علاقة الوالدين بالطفل هي الأكثر أهمية في حدوث الاضطرابات السيكوسوماتية، فإحباط الرغبات الإعتمادية لدى الطفل ومشاعر التبعية والحاجة للحماية تنعكس على صعيد الجهاز الهضمي وترتبط بالإصابة بقرحة المعدة لأن الطعام يحمل رمزية الحب والطفل يستدخل الحب ويتغذى عليه في نفس الوقت الذي يتناول فيه طعاما، أي أنه بحاجة إلى الغذاء الجسدي الذي يشبع بطنه وحاجاته الجسدية تماما مثلما هو بحاجة إلى الحب الذي يشبع حاجاته العاطفية، ويعتبر مارتي أنَّ الإنسان وِحدة حية لها تميزها وفرديتها عن باقي الوحدات الأخرى، فهو يولد مجهزًا بالآليات الدفاعية – الجسدية المناعية التي تتيح له مقاومة الأمراض إلا أن توطيد هذه الآليات الدفاعية الجسدية والنفسية يتم من خلال علاقة الطفل بالأم، كما يركز مارتي على عملية التعقيل والتي تشير إلى العمل النفسي المُنجز بالدوام للتحكم في تفريغ الإثارات الانفعالية حيث أنَّ تراكم الانفعالات وعدم تفريغها يؤدي إلى تضرر أحد الأعضاء في الجسد والذي يُسمى بالعضو الهش، ويُعالج التعقيل كمية وكيفية التمثيلات والصور النفسية وديناميتها فهو يؤهل الجهاز النفسي للقيام بربط المثيرات من خلال أنظمة وشبكة التمثيلات مع ترابط الأفكار المختلفة والتفكر المملوء بالعاطفة.
- العوامل الاجتماعية الصعبة: إن المجتمع المريض تظهر أعراض تفككه بوضوح في شكل أمراض واضطرابات لدى أفراده، كما أن التغير الاجتماعي السريع يؤدي لزيادة هذه الأمراض، بالإضافة إلى أن الحوادث اليومية من بطالة وخسارة وفراق وموت شخص عزيز تؤدي كلها إلى الإجهاد النفسي الذي بتراكمه لفترة طويلة نتيجة هذه المواقف يترك أثارًا سيئة في جسم الإنسان، فأحداث الحياة المرتبطة بالاستثارات الإنفعالية يمكن أن تسبب تغييرات في العمليات الفسيولوجية، ويمكن لمشاكل الحياة اليومية الأساسية أن تؤثر على الصحة بطرق سلبية فالجسد الإنساني يكافح باستمرار لكي يصل إلى الإتزان البدني أو الإتزان في الوظائف، وتأتي أحداث الحياة لتقلب حالة توازن الجسم رأسا على عقب.
- خصائص الشخصية: تم تقسيم أنماط الشخصيات إلى صنفين أساسيين في إطار التفسير السيكوسوماتي، فنجد النمط A وهو النمط الخاص بالأشخاص العدائيين، والذين يتكلمون ويمشون ويأكلون بسرعة، غير صبورين، قلقين، يكملون جمل الآخرين، يفخرون بأنفسهم عندما ينهون أعمالا في وقت أقل من الآخرين، يقيسون أداءهم بمستويات صارمة، يضعون أنفسهم تحت ضغط يؤثر على أجهزتهم العضوية، وهؤلاء نجد لديهم قابلية أكثر للإصابة بأمراض القلب لأنهم يمتلكون استجابة فزيولوجية عالية عند تعرضهم للضغوط مثل الاستجابة بمستويات عالية من جانب نشاط الجهاز العصبي والتي بدورها تضعف القلب، أما الأشخاص من النمط B فهم أكثر هدوء وصبرا. هذه النتائج أدت إلى تطور العلاج النفسي الذي يهدف إلى تعليم أشخاص كل نمط كيفية التعامل مع الضغوط بفاعلية أكثر.
- العادات المكتسبة: يرى بعض الباحثين في النظرية السلوكية أن الاضطرابات السيكوسوماتية ماهي إلا عادات تعلَّمها الإنسان ليخفف بها من قلقه وتوتراته ويجد من خلالها حلا لصراعاته، كما أن الاضطراب حسبهم هو نتيجة لتطور عملية تعلم فاشلة تَمَّت عن طريق الإشراط الكلاسيكي أو الإجرائي، أي إمَّا من خلال الاستجابة لمثيرات بيئية معينة، أو بالإستجابة لمثيرات أخرى ثانوية كانت موجودة أثناء الاستجابة للمثيرات الأصلية.
كما يظهر للقارئ، فإنَّه لاتوجد نظرية واحدة يمكنها أن تعطينا تفسيرا واضحا وشاملا للاضطراب السيكوسوماتي، فكل نظرية لوحدها تتناول بعدا وتَغفِل أبعادا أخرى لا نستطيع استبعادها في تفسير هذا الإضطراب، فتفسير الأعراض و الإضطرابات السيكوسوماتية لا يمكن أن يقتصر على النواحي الفزيولوجية أو الوراثية والتكوينية فقط، ولا على النواحي الانفعالية فقط، بل يجب أن تشمل عملية تفسير المرض السيكوسوماتي على العديد من المتغيرات لأن العلاقة بين الواقع الخارجي أي البيئة والعوامل الإجتماعية، والواقع الداخلي أي النفسي والانفعالي والبيولوجي هي علاقة ديناميكية يحدث فيها التفاعل والحركة بالقدر الذي لا نستطيع فيه فصل أي عامل عن العوامل الأخرى.
المصادر:
-زينب محمود شقير: الأمراض السيكوسوماتية والنفس جسمية، ط1، 2001، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة .
-فيصل خير الزراد: الأمراض العصابية و الذهانية و الإضطرابات السلوكية،2000، دار الفكر العربي ،بيروت.
-بيار مارتي، وجان بنجمان ستورا: مبادئ البسيكوسوماتيك وتصنيفاته ، 1992 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت .
-محمد محمود بني يونس: الأسس الفزيولوجية للسلوك ، 2008، دار الشروق، عمان .
-ريحاني الزهرة: العنف الأسري ضد المرأة وعلاقته بالاضطرابات السيكوسوماتية ، مذكرة مكملة لنيل شهادة الماجستير في علم النفس السنة الجامعية 2009/2010، جامعة محمد خيضر، بسكرة.
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي