من العصرالبرونزي إلى نهاية الألفية الثانية بعد الميلاد؛ خلال هذه الفترة من الزمن، تطوّرت تكنولوجيات الاتصال والمعلومات من مجرّد أنظمة تسجيل مثل الكتابة وإنجاز المخطوطات إلى نظم اتصالٍ أيضًا، خاصّةً بعد “غوتنبرغ” واختراع الطباعة، إلى أن أصبحت نظمَ معالجة وإنتاج، خاصّةً بعد “تورينغ” وانتشار أجهزة الكمبيوتر.
وبفضل هذا التطوّر، تعتمد أكثر المجتمعات تقدّمًا، بصورةٍ كبيرة، على الأصول غير المادية القائمة على المعلومات، والخدمات كثيفة المعلومات(خاصّةً خدمات الأعمال، العقارات، الاتصالات، التمويل، التأمين والترفيه)، والقطاعات العامة معلوماتية التوجُّه(خاصّةً التعليم، الإدارة العامة والرعاية الصحية).
على سبيل المثال، يمكن اِعتبار جميع الدول الأعضاء في مجموعة السبعة —وهي تحديدًا: كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتّحدة والولايات المتّحدة الأمريكية — مجتمعات معلومات؛ نظرًا لأنّ 70% على الأقل من إجمالي الناتج المحلّي فيها يعتمد على السّلع غير المادية التي ترتبط بالمعلومات، وليس على السّلع المادية التي تعتبر منتجات مادية للعمليات الزراعية أو التصنيع. إنّ عمل ونمو هذه المجتمعات يتطلّب ويولّد كمياتٍ هائلة من البيانات، أكثر بكثير ممَّا شهدته الإنسانية في تاريخها كلّه.
في عام 2003، قدَّر الباحثون في كلية إدارة ونظم المعلومات في “بيركلي-كاليفورنيا” حجم البيانات التي راكمتها الإنسانية بمقدار 12 إكسابايت (الإكسابايت الواحد يساوي 10 18 بايت من البيانات أو ما يماثل 50 ألف عامٍ من محتوى الفيديو عالي الجودة) عبر مسار تاريخها كلّه حتى إنتاج أجهزة الكمبيوتر على مستوًى تجاريّ. في المقابل، قدَّر الباحثون أنفسُهم حجم محتوى المواد المطبوعة، الفيلمية، الممغنطة والبصرية بما يماثل أكثر من 5 إكسابايت من البيانات في عام 2002، ويكافئ ذلك حجم 37 ألف مكتبة جديدة بحجم مكتبة الكونجرس، بالنظر إلى حجم سكان العالم في 2002، يتبيّن أنّه أُنتِج ما يقارب من 800 ميغابايت من البيانات المسجّلة لكلّ شخص، وهو ما يشكّل 30 قدمًا من الكتب لكلّ مولودٍ جديدٍ جاء إلى العالم؛ اذا 800 ميغابايت من البيانات المطبوعة على الورق، من بين هذه البيانات، جرى تخزين 92 % منها في وسائط ممغنطة، معظمها على أقراصٍ صُلبة، وهو ما أدَّى إلى حدوث عملية « دمقرطة »* غير مسبوقة للمعلومات؛ إذ يمتلك المزيد من الأشخاص حاليًا مزيدًا من البيانات أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولا يزال هذا التزايد المتسارع مستمرّا دون توقّف؛ فوِفق دراسةٍ حديثة، سيزداد حجم البيانات الرقمية عالميًا أكثر من ستّة أضعاف، من 121 إكسابايت إلى 988 إكسابايت بين عامَي 2002 و2010، وهذا ما يُطلق عليه “فيضان الإكسابايت”.
لقد غيّر العلم طريقة فهمِنا للأمور، فنحن لسنا ساكنين تمامًا، نقبع في مركز الكون(ثورة كوبرنيكوس)، ولسنا منفصلين ومتنوّعين على نحوٍ غير طبيعيّ عن بقية المملكة الحيوانية(ثورة داروين)، كما أنّنا بعيدون كلّ البعد عن كوننا نمتلك عقولًا تعي وجودها تمامًا كما اِفترض “رينيه ديكارت”، والعقل يمتلك لاوعيًا ويخضع لآلية القمع الدفاعية (ثورة فرويد). ومنذ خمسينيات القرن العشرين، أحدثت علوم الكمبيوتر وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات تأثيرًا كبيرًا وعميقًا، وهو ما لم يغيِّر من تفاعلاتنا مع العالم فحسب، بل ومن فهمنا لذواتنا أيضًا.
إنّنا نشهد هجرةً تاريخية غير مسبوقة للبشرية من موطِنها الطبيعيّ الاعتياديّ إلى الحَيِّز المعلوماتيّ، وهو الأمر الذي يرجع في الأساس إلى أنّ العالم الأخير يبتلع العالم الأول في كنفه. بناءً عليه، سيصبح البشر كائنات معلوماتية ضمن كائناتٍ أخرى معلوماتية -ربما تكون اصطناعية- وكياناتٍ تعمل في بيئة أكثر ألفة للكائنات المعلوماتية، وستصبح عملية الهجرة الإلكترونية عملية أكثر اكتمالًا، وستشعر الأجيال المستقبلية بالمزيد من الحرمان، الإقصاء والعجز -أو حتى العَوَز- متى انفصلت عن عالم المعلومات، مثل السمك خارج الماء.
ما نمرّ به إذن هو “ثورة رابعة” عبر عملية الإزاحة وإعادة التقييم لطبيعتنا الجوهرية ودورنا في الكون، فلا نزال نعدِّل من منظورنا اليوميّ حول الطبيعة النهائية للواقع -بعبارةٍ أخرى: وجودنا الميتافيزيقي- من منظورٍ مادّي تلعب الأشياء والعمليات المادّية دورًا مهمًّا فيه، إلى منظورٍ معلوماتيّ، ويعني هذا التحوّل أنّ الأشياء والعمليات تتخلّى عن طبيعتها المادّية. والعالم البريطاني “آلان تورنغ” هو الذي بدأ هذه الثورة.
ونحن في حقيقة الأمر، نتحرّك سريعًا في اِتجاه تسليع الأشياء، وهي العملية التي تعتبر “الإصلاح” مرادفًا “لـلإحلال”، حتى لو كان ذلك في حال بناياتٍ بأكملها، وكنوعٍ من التعويض، أدَّى ذلك إلى وضع أولوية لعملية «التمييز»، فالشخص الذي يضع لاصقة على شبّاك سيّارته -وهي السيارة التي تتطابق تمامًا مع آلاف السيارات الأخرى- يحارب في معركةٍ للتّأكيد على فرديّته، وقد فاقمت ثورة المعلومات من هذه العملية، فبمجرّد أن نتحوّل من عملية التسوّق عبر واجهات المحالِّ إلى عملية تسوّقٍ عبر نظام تشغيل الويندوز، ولا نعود إلى السّير في الطريق بل نتصفّح الشبكة، يبدأ شعورنا بالهوية الشخصية في التّآكُل أيضًا. وبدلًا من أن يجري النّظر إلى الأفراد باعتبارهم كياناتٍ فريدة وغير قابلةٍ للإحلال، نصبح كياناتٍ مجهولة يجري إنتاجها على نطاقٍ واسع، كائناتٌ تصادف ملياراتِ الكائنات المعلوماتية الأخرى على الإنترنت، لذا، نُجري عملية تمييزٍ واِستعادة لأنفسنا في عالم المعلومات من خلال استخدام المدوّنات والفيسبوك، الصفحات الرئيسية للمواقع، الفيديوهات على موقع يوتيوب وألبومات صور موقع فليكر.
لا تزال تكنولوجيات المعلومات والاتّصال تُغيِّر العالم بعمقٍ وعلى نحوٍ لا سبيل إلى الرجوع عنه لأكثر من نصفِ قرنٍ من الزمان وحتى الآن، على نطاقٍ هائل وبمعدّلٍ فائق السرعة. فهي من ناحية، أدّت إلى ظهور فرصٍ حقيقية ووشيكة ذات فوائد عظمى على التعليم، الرفاهية، الازدهار، والتهذيب فضلًا عن المميّزات الاقتصادية والعلمية الكبرى. ومن ناحيةٍ أخرى، تنطوي تكنولوجيا المعلومات والاتّصال على مخاطر كبيرة، كما يتولّد عنها معضلات وأسئلة عميقة حول طبيعة الواقع ودرجة معرفتنا به، وحول تطوّر العلوم كثيفة المعلومات(العلم الإلكتروني)، تنظيم مجتمعٍ عادل(خذ مثلًا الفجوة الرقمية)، حول مسؤوليتنا والتزاماتنا تجاه الأجيال الحالية والقادمة، حول فهمنا للعالم المتشابك ونطاق تفاعلنا الممكن مع البيئة. نتيجةً لذلك، تجاوزت تكنولوجيات المعلومات والاتّصال فَهمَنا لطبيعتها وتداعياتها المفهومية، كما أثارت مشكلاتٍ تزداد درجة تعقّدها وأبعادها العالمية بسرعة. مشكلاتٌ تتطوّر وتصبح أكثر خطورة.
نتيجةً لهذه التحوّلات في بيئتنا العادية، سنعيش في عالم معلوماتٍ أكثر تزامنًا (عامل الوقت)، غير مقيَّد بحدود(عامل الفضاء)، ومترابط(عامل التفاعلات) وقد أحدثت الثورات السابقة(خاصةً الثورتين الزراعية والصناعية) تحوُّلاتٍ واضحة للعيان في بنانا الاجتماعية وبيئاتنا المعمارية؛ وذلك غالبًا ما يكون في ظلّ غياب نظرةٍ مستقبلية.
لا تقلّ ثورة المعلومات، في تأثيراتها، عن الثورات الأخرى وسنواجه متاعب جمَّة إذا لم نأخذ على محمل الجدّ أننا نُنشئ البيئة الجديدة التي ستعيش فيها الأجيال القادمة.
دمقرطة: الاتجاه نحو الديموقراطية.
المصدر : كتاب المعلومات للبروفيسور والباحث في فلسفة المعلومات «لوتشيانو فلوريدي» – Luciano Floridi
تدقيق لغوي: بن يمينة هاجر