دماغك لا يُخزن الذكريات، ولا يسترجعها، ولا يعالج المعلومات، باختصار هو ليس حاسب إلكتروني! فهل دماغك فارغًا؟.
من المستحيل أن يجد علماء النفس، والعقل، والإدراك، نسخة من السمفونية الخامسة لبتهوفن في دماغك، أو نُسخ من الكلمات، والحروف، والصور، والقواعد الرياضية واللغوية والحسابية، التي تعرفها. أو أي نوع من أنواع المعلومات وقواعد معالجتها، أو حتى أي محاكاة معلوماتية للبيئة الفيزيائية حولك، حتى ولو كانت مشفرة، إن دماغك حتى لا يحتوي على أي شيء مما نعتقد، ولا يحتوي حتى على ذكريات!.
إن تفكيرنا السخيف عن العقل له جذور تاريخية، وكانت بداية الخلط مع اختراع الكمبيوتر في عام 1940، ولأكثر من نصف قرن اعتبر علماء النفس، وعلماء اللغة والاعصاب، وكل خبراء السلوك الإنساني، أن عمل العقل ما هو إلا طريقة أخرى لعمل الحاسب الآلي.
ولنرى كم أن هذه الفكرة فارغة، لنتصور عقل أطفال الثدييات حديثي الولادة، إنهم يدخلون العالم مُجَهزين ليتفاعلوا معه بكفاءة تضمن بقائهم. فمثلًا رؤيتهم ضبابية، لكنهم يولون انتباهًا خاصًا للوجوه، وقادرون على تحديد وجه الأم بسرعة، ويحبون الأصوات التفاعلية الغير لغوية، ويستطيعون تمييز أصوات لغوية عن أخرى، لقد هيّئنا التطور لنكون قادرين على عمل تفاعلات اجتماعية.
حديثي الولادة مزودون بأكثر من مجموعة من ردود الفعل، ردود فعل مباشرة وجاهزة لبعض المحفزات والمهمة من أجل البقاء. فمثلًا يخافون بشدة من السقوط، يقومون بتدوير أدمغتهم نحو أي شيء ذي بروز، ثم يمتصون هذا الشيء أيًا كان طالما دخل أفواههم، يتوقفون عن التنفس في الماء. من الواضح أنهم مجهزين ببعض الآليات التي تحافظ على بقائهم وسط المخاطر، حتى ولو لم يواجه أجدادهم تلك المخاطر من قبل. الحواس وردود الفعل وآليات التعلم، هي قدرات نبدأ بها حياتنا، وبدون تلك القدرات سنواجه مخاطر تتعلق ببقائنا.
وما لم نولد به: المعلومات، والبيانات، والقواعد اللغوية والحسابية، والمعرفة، والصور، والذكريات، والرموز ومعالجتها، وليس لدينا أي من المواد التي لدى الحاسب وتجعله يتصرف نوعًا ما بذكاء، حتى أننا لم نطور تلك الأشياء عندنا أبدًا!.
نحن لا نخزن الكلمات ولا القواعد التي تمكننا من تكوين الجمل مثلًا، ولا نعمل محاكاة للبيئة حولنا، ولا نخزن ذلك في أي نوع من أنواع الذاكرة قصيرة المدى، ولا نرسلها بعد ذلك للذاكرة طويلة المدى، ولا نستعيد الذكريات من الذاكرة بالأساس، الحاسب يفعل كل تلك الأشياء، لكن الأحياء لا تفعل أيًا منها.
الحاسب يخزن المعلومات في ذاكرة مادية، ويعالجها باستخدام معالج مادي، وقادر على استرجاعها لحظيًا من تلك الذاكرة، وكل ذلك من خلال خوارزميات رياضية منطقية تمت برمجتها في المعالج، والحاسب محكوم بتلك القواعد في كل شيء. لكننا لم نجد في الإنسان أي بديل لتلك المكونات التي يعمل بها الحاسب، فلماذا إذًا يتحدث العلماء عن حياتنا العقلية كما لو كانت حاسبًا آليًا!.
وصف خبير الذكاء الاصطناعي (جورج ذاركاداكيس) في كتابه حوالي 6 محاولات على مر التاريخ لوصف الذكاء الانساني.
الأولى كانت من 2000 سنة، حينما وصف الكتاب المقدس أن الإله خلق الإنسان من تراب أو طين، ثم نفخ الإله فيه ذكائه أو روحه، وهذه الروح هي ما تفسر الذكاء الذي نحن عليه. ومع اختراع الهندسة الهيدروليكية في القرن الثالث قبل الميلاد، تبنت العامة فكرة أن العقل ما هو إلا نموذج هيدروليكي ودامت هذه الفكرة لمدة 1600 سنة.
وفي العام 1500 بعد اختراع الآلات والمحركات، التي تعتمد على التروس، اعتبر (رينييه ديكارت) أن العقل ما هو إلا آلة مُعقدة، وفي 1600 قال الفيلسوف (طوماس هوبز) إن التفكير ينشأ من حركات ميكانيكية صغيرة في الدماغ. وأدت مُكتشفات العام 1700 في الكهربية والكيمياء إلى نظريات جديدة لوصف الذكاء الإنساني، وفي منتصف العام 1800 قام الفيزيائي الألماني (هيرمان فون هلميهولتز) بعمل مقارنة بين الدماغ والتليجراف.
كل محاولة تصف عمل العقل، تعكس في الحقيقة وصف العصر الذي يعيش فيه صاحب الوصف الجديد بشكل غير مباشر. ومن الطبيعي في العام 1940 أن يظهر تشبيه للدماغ بالحاسب الآلي، والأفكار التي فيه ما هي إلا البرمجيات، وهذا ما قاله عالم النفس (جورج ميللر)، الذي اقترح أن حياتنا العقلية يمكن دراستها من خلال نظرية المعلومات والحَوسَبة واللغويات. وأخذت هذه الطريقة في التفكير قوتها، حين قال الرياضي (جون فون نيومان) إن وظيفة الدماغ هي معالجة رقمية للمعلومات، ورَبَط بين مكونات الحاسب الحالي وبين مكونات الدماغ الإنساني.
من السهل تحديد الخطأ المنطقي في فكرة أن الدماغ مجرد معالج للمعلومات، فهذه الفكرة مبينة على قياس خاطىء، تم استنتاجه من فرضيتين معقولتين – الفرضية الأولى أن جميع الحاسبات من الممكن أن تتصرف بذكاء، والثانية أن جميع الحاسبات تعالج المعلومات. والاستنتاج الخاطىء هو أن كل الأشياء التي تتصرف بذكاء تُعالج المعلومات، ومن بينها الإنسان. إن الفكرة التي تقول إن الانسان مُعالج للمعلومات لأن الحاسب يُعالج المعلومات، فكرة سخيفة، تمامًا كما نحن نعتبر حاليًا أن الفكرة التي كانت تقول إن العقل مجرد نظام هيدروليكي أو ميكانيكي هي فكرة سخيفة، فالمسألة مسألة وقت.
قام (روبرت أبستين) بعمل تجربة لتوضيح فشل فكرة وجود ذاكرة في الدماغ، حيث طالب مجموعة من الطلاب بأن يرسموا ورقة الدولار، ثم جمع رسوماتهم وقام بإخراج ورقة الدولار من محفظته، وعلقها على اللوحة، وطلب منهم أن يرسموها مرة أخرى. ثم كشف مجموعة الرسومات الأولى، وقارنها بمجموعة الرسومات الثانية وكان الفارق كالآتي:
الفارق واضح ومخيف ويؤكد أن هناك مشاكل في تصورهم النهائي لورقة الدولار، ماذا حدث؟، ألم تكن صورة ورقة الدولار مخزنة في عقولهم؟، لماذا لم يكونوا قادرين على استرجاعها ورسمها جيدًا في المرة الأولى؟، بالتأكيد لم تكن مخزنة في عقولهم. ومهما بحث علم الأعصاب عن موقع صورة ورقة الدولار في الذاكرة بالدماغ لن يجدها، ببساطة لأنه لا توجد ذاكرة.
في الواقع إن عملية تذكر شيء معين ينشط ملايين الخلايا العصبية، لذلك فقول أغلب العلماء بإن المعلومات مخزنة في خلايا عصبية فردية، منافٍ للعقل. وأين أصلًا يتم تخزين المعلومات في الخلية؟.
الفرق بين الصورتين، يوضح الفرق العقلي بين تصور الأشياء في ظل وجودها وتصورها في ظل غيابها، وهذا يفسر لماذا نحن أفضل في التعرف على الأشياء أكثر من تذكرها.
من هذا المثال البسيط، نستطيع عمل إطار جديد لنظرية خالية من التحيُّزات، تُفسر السلوك والذكاء الإنساني. وأحد هذه التحيزات، أن العقل لا يحتوي على الأشياء التي نعتقدها، لكنه أيضا ليس خالي تمامًا، لكن على الأقل خالي من المكونات التي تشبه مكونات الحاسب، التي تدعيها فكرة أن العقل مُعالج للمعلومات.
لا يملك أحدًا رؤية واضحة حول التغييرات التي تحدث في المخ، حين نتعلم أغنية جديدة أو نحفظ قصيدة شعرية، لكن لم يخزن المخ الأغنية ولا القصيدة، ولكنه تغير بطريقة ما تجعلنا قادرين على أن نُغني الأغنية، ونقول تلك القصيدة من الشعر تحت ظروف معينة. نحن ببساطة نغني ونقول الشعر ولم نستدع شيئًا. قليل من علماء العلوم الإدراكية الآن رفضوا فكرة الدماغ الذي يعالج المعلومات، ومن بينهم (أنتوني شيرميرو).
أحد التنبؤات القائمة على فكرة الدماغ المعلوماتي، والتي قام بها بعض العلماء مثل (ستيفن هوكنج) وغيرهم، هو أنه سيمكننا تمثيل أو تحميل المعلومات التي في الدماغ على الحاسب. وبالتالي يكتسب الشخص صاحب تلك الدماغ الخلود لكن في جسد مختلف، وهذا ما قام به (جوني ديب) في فيلم (Transcendence)، حيث حمّل معلومات دماغه على الحاسب ومنه على الإنترنت، فأكتسب قوة معرفية لا تُضاهَى، لأن عقله أصبح متصل بجميع المعلومات الموجودة على الإنترنت. فكان قادرًا على استغلال تلك المعلومات لعمل كل شيء يرغب به.
ولا شيء من كل هذا يدعونا للقلق، لأن فكرة العقل المعلوماتي أو الدماغ المعالج للمعلومات، فكرة فاسدة. ليس بسبب أن الوعي ليس مجرد معلومات في العقل، لكن بسبب مشكلة أعمق، لنسميها مشكلة (التفرد)، والتي هي مثيرة ومُحبِطة في نفس الوقت. ليس بسبب أن الذكريات متمثلة معلوماتيًا في العقل، لكن بسبب أن التغير الذي يحدث في العقل نتيجة خبرة ما، هو تغير فريد، أي أن هذا التغير يختلف من شخص لآخر، حتى وإن كانت الخبرة المكتسبة واحدة. فحينما نسمع أنا وأنت السمفونية الخامسة لبتهوفن، يحدث تغييرات في دماغ كلًا منا، والتغيرات التي ستحدث في دماغي، غير التي ستحدث في دماغك.
إن موضوع التفرد هذا مثير؛ يفترض أن كل فرد منّا متميز تمامًا عن غيره، وفريد من نوعه، ليس على مستوى تركيبته الجينية فقط، بل على مستوى أكثر عمقًا وهو أننا متميزون في طريقة تغير أدمغتنا عبر الزمن. ومُحبطة لأنها تجعل من مَهمة علماء الأعصاب مَهمة مستحيلة وشاقة بقدر يفوق الخيال، فلكل خبرة تغيرات مُرتبة لألآف الخلايا العصبية أو ملايين أو حتى الدماغ كله.
من الممكن الآن دراسة العقل من خلال أخذ صورًا متتالية لوضع الخلايا فيه، وهذا سيمكننا من دراسة تغير وضع الخلايا مع الوقت، وبالتالي تحديد الكيفية التي يتغير بها الدماغ مع الزمن، طبقًا لخبرة معينة. وحتى هذا كله قد يفشل لأننا سنكون بحاجة لمعرفة تفاصيل كثيرة عن كل حياة الشخص صاحب هذا الدماغ، وهذا سيجعل من المَهمة مستحيلة.
تخيل مدى صعوبة الموضوع، تريد أن تعرف وضع بلايين الخلايا العصبية في كل لحظة، ووضع مئات التريليونات من الوصلات بينهم!. وليس أيضًا آلاف البروتينات الموجودة في كل نقطة من كل وصلة عصبية، بل أيضًا ما هو النشاط الذي يحدث لها بين كل لحظة وأخرى، ليتكامل نظام المخ، وأضف لذلك تفرد أو تميز طريقة تغيير مختلفة تبعًا لتاريخ كل مخ عن أي مخ آخر.
نحن نضيع الكثير من الأموال على الأبحاث ذات الاتجاهات الخاطئة لكشف عمل الدماغ، نحن أحياءًا عضوية لسنا حاسبات آلية، لنبدأ الآن بتجارة رابحة لنفهم أنفسنا، لكن بدون حمل أفكارًا مسبقة تعيقنا عن ذلك.
نحن نتبنى فكرة العقل المعلوماتي لنصف قرن بنتائج قليلة لا تحمل أي إشارة لنجاحات، آن الأوان لتوجيه تلك الأفكار لسلة المحذوفات، وضغط زر المسح.
المصدر: هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تدقيق لغوي: Mohammed Diab