للإستماع للمقال بصوت بنان شنو:
تغير العالم في المائة سنة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى. وذلك ليس بسبب مباديء جديدة في السياسة أو الاقتصاد، وإنما التطور الهائل في التكنولوجيا، التي أصبحت مُمكنة فقط بسبب أوجه التقدم في العلوم الأساسية، مثل الفيزياء. فنجد أن تقدم الفيزياء أثر على كل مسارات الحياة المادية والمعنوية، حتى تغيرت نظرتنا للكون تمامًا، ولعل أهم الإنجازات العلمية للنصف الأول من القرن العشرين – نظرية النسبية ونظريات ميكانيكا الكم. سنحاول في حلقاتنا أن نتعمق في النسبية الخاصة والعامة.
من الملابسات التي مهدت الطريق لظهور النسبية الخاصة، مُحاولة تفسير سلوك الآشعة الكهرومغناطيسية، وبخاصة آشعة الضوء (الضوء أحد أنواع الآشعة الكهرومغناطيسية):
ففي نهاية القرن التاسع عشر فسر العلماء ظاهرة انتقال موجات الضوء والراديو، بفرض وجود وسط متصل موجود في كل مكان، ويملأ فراغ الكون أطلقوا عليه اسم الأثير، فينتقل من خلاله الضوء بنفس طريقة انتقال الصوت في الهواء (الصوت لا ينتقل في الفراغ).
اعتبر العلماء أن الأثير هو الشيء الساكن، الذي لا يتحرك ويتحرك فيه كل شيء، وأي جسم متحرك فهو يتحرك بالنسبة للأثير حتى الضوء نفسه. وبحسب ذلك فإن سرعة الضوء ستكون سرعة نسبية أي أنها ستتغير بحسب اتجاه وسرعة الراصد الذي يتحرك أيضًا بالنسبة للأثير.
إلا أنه قد أُجريت سلسلة من التجارب لدراسة خواص الأثير، وبخاصة محاولة رصد تغير في سرعة الضوء بالنسبة للأثير، وأكثر هذه التجارب دقة التجربة التي أجراها (ألبرت ميكلسون) و (إداورد مورلي) عام 1887. فقد قارنا بين سرعة الضوء في شعاعين أحدهما في اتجاه حركة الأرض حول الشمس، والآخر متعامدًا عليها.
الأرض تتحرك في الفضاء بالنسبة للأثير الساكن، وبالتالي فالأثير يتحرك بالنسبة لسكان الأرض، لكن في اتجاه عكسي. وسيكون تأثير حركة الأثير على أحد آشعة الضوء أكبر من تأثيرها على الآخر، لأن اتجاهات حركات شعاعي الضوء مُختلفة، فأحدهما اتجاهه عمودي على الآخر، وبالتالي ستختلف سرعة أحد آشعة الضوء عن الآخر، لكن كانت النتيجة أن سرعة الضوء في الاتجاهين واحدة! أي أن الضوء لم يتأثر بحركة الأثير إطلاقًا!
أتت النتائج بما لا تشتهي السفن. وحتى بعد إعادة التجربة أكثر من مرة، لم يجدا أي فروق بين سرعات شعاعي الضوء، وتحرك شعاعي الضوء دائمًا بنفس السرعة، بصرف النظر عن سرعة واتجاه الراصد (سرعة واتجاه الراصد هنا هي سرعة واتجاه حركة الأرض). النتائج لا تدعم فكرة وجود الأثير إطلاقًا.
وبسبب هذه التناقضات بين التوقعات بوجود الأثير ونتائج التجارب التي أكدت عدم وجود أي تأثير للأثير، جاء (أينشتاين) ليبني أسسًا جديدة للفيزياء، سماها نظرية النسبية الخاصة. ففي يونيو 1905 كتب ورقة بحثية علمية، وضّح فيها أنه إذا لم نستطع أن نكتشف ما إذا كنا نتحرك أو لا نتحرك في الفضاء، فسوف تصبح فكرة الأثير حشوًا لا حاجة له، ووضع فروض نظرية النسبية الخاصة على أنقاض الأثير:
الفرض الأول: قوانين الطبيعة كلها متماثلة لكل الراصدين الذين يتحركون بانتظام.
فإذا لم نستطع الاعتماد على مرجع ثابت أو مطلق السكون ننسب له سرعتنا، فلن نكتشف أننا نتحرك أو لا نتحرك في الفضاء. وبناءًا على ذلك، نبذ (أينشتاين) فكرة السكون المُطلق من الأساس، وإذا كان لا وجود للسكون المُطلق، ولا يوجد مرجع ثابت فهذا يعني أنه لا وجود للأثير. وأيضًا إذا كان لا وجود للسكون المُطلق، ولا يوجد مرجع ثابت، فهذا يعني أنه لا وجود للحركة المطلقة. وإذا كان لا يوجد حركة مطلقة فلن يوجد سرعة مطلقة، وبالتالي أصبح هناك حدود للسرعة القصوى التي يمكننا الوصول لها. أي لا يوجد انتقال آني، لا يوجد شيء ثابت يمكننا من خلال ثباته أن نعرف أننا نتحرك، وهناك حدود لما يمكننا أن نصل إليه من سرعة.
ومن هذه النتائج ظهر أغرب شيء يُمكننا تخيله على الإطلاق، حيث أصبح معدل مرور الزمن على المادة يختلف من مكان لآخر، أي أن الساعات لا تحسب مرور الزمن بنفس المعدل، بل لكل ساعة زمنها الخاص التي تحسبه، فيمكن أن تمر الدقيقة عليك بينما تمر ستون دقيقة كاملة على شخص آخر في نفس الدقيقة التي مرت عليك، وهذا لا علاقة له بخطأ في الساعات التي نقيس بها الوقت، ولا علاقة له بأنك تعيش سعيدًا فتمر الساعات عندك وكأنها دقائق، بل بسبب طبيعة الزمن نفسه الذي يمكن إبطاء سرعة مروره ويمكن زيادة سرعة مروره. وهذا الكلام غريب ويهدم فهمنا التقليدي للزمن المطلق، الذي يمر على كل الأماكن بنفس المعدل، لكنه حقيقي كما سنعرف وسنندهش أكثر في الحلقات القادمة.
أصبح الراصدون لحدث معين يختلفون في تحديد زمن الحدث ومدته ومكانه أيضًا، لأن لكل منهم مكانه وزمنه الخاص المختلف عن الآخر. وأصبح الزمان كالمكان يمكننا المرور من خلاله للامام وللخلف، أو للمستقبل وللماضي. وأصبح الزمان والمكان شيئًا واحدًا اسمه الزمكان، ولا يمكننا الحديث عن الزمان دون المكان ولا العكس، فهم مرتبطان ارتباطًا وثيقًا ببعض، بل إنهما شيئًا واحدًا، وحتى أصبحت المادة أو الكتلة والطاقة شيئًا واحدًا.
دعونا نحاول فهم تفاصيل أكثر عن الأسباب التي دعت (أينشتاين) لوضع الفرض الثاني، ونحاول فهمه وفهم نتائجه الغريبة، ونتعمق في معاني النسبية الرائعة الجمال في الحلقات القادمة من السلسلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حلقات السلسلة:
الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع : Modern Physics by Dr. Abou-taleb Mohamed
إعداد وتقديم : م. الخطيب
التدقيق اللغوي : Mohammed Diab
التدقيق العلمي : ق. لمين
صوت: بنان شنو