إنّ التحوّلات الجذرية في الفهم العلمي -في بدايات القرن العشرين وحتّى يومنا هذا-، كشفت عن خطأ الرّؤية الانفصالية لعلاقة الوعي بالعالم، والتي يفرضها الحسّ المشترك، وانحازت النّظرية العلميّة نحو المعقّد والغامض بشكل كبير، لكنّ الحقيقة أنّ هذا التّعقيد يمكن فهمه، إذا غيّرنا من زاوية نظرنا إلى الواقع، أو إذا غيّرنا توجّهنا الذهني، فنحن اِعتدنا النّظر إلى كلّ شيء وفقًا لفهمنا المؤسّس على منطق البداهة العامّة، الذي صاغته ظواهر حياتنا اليومية البسيطة، ولطالما بقينا مقيّدين بهذه النّظرة السّاذجة.
توحُّد الوعي والعالم ليس مسألة افتراضيّة، بل حقيقة واقعيّة تمامًا، لأنّها ليست قادرة فقط على تفسير المعطيات الجديدة للعلم، وإنّما قادرة على الفهم الشّامل للكون، منذ بداياته الأولى (الانفجار العظيم)، والتنبّؤ بمساره المستقبلي عن طريق معرفة وحداته الأوّلية التي انطلق منها في بداية ذلك الانفجار.
العالم بحاجة إلى الوعي دومًا، لأنّه بحاجة أن يكون ذا معنى، ولا ينبثق المعنى إلّا من خلال ارتباطٍ حقيقيٍ للوعي بالعالم، ليس ارتباطًا بين شيئين، غريبٌ أحدُهما عن الآخر، أو متناقضين، وإنّما ارتباطًا لا ينفصم، توحّدٌ لا انفصال؛ حيث المساحة التي يعمل فيها الوعي هي العالم، والمعنى الذي يوجد فيه العالم وينظّم ذاته هو الوعي، فالفيزياء والسيكولوجيا مجالان متكاملان، ومن تكامُلهما يتشكّل العالم، لكنّنا لا نقصد بالفيزياء النّظريّة الآليّة الكلاسيكية، ولا السيكولوجية السلوكيّة، إنّما نقصد فيزياء «الكوانتم-quantum»، وسيكولوجيا «ساي-Psi» -يٌشرحان في آخر المقال-، مجال الساي الذي يتخلّل مطلق المكان، هو وعي منتشر، وفاعل يُروحن المكان الفيزيائي.
العالم من دون الوعي عماء وفوضى. وينبثق النّظام حين يتوحّد الوعي والعالم، وهذا التوحّد ليس له نقطة بداية في الزّمن، لأنّ شكل العالم من دون وعيٍ هو لا عالم، فوضى(أنتروبيا). إنّ إعادة الفوضى والتّبدد إلى نظامٍ مرّةً اُخرى، أو ما يسمّى بـ “عكوسيّة” الزّمن، هو نشاطٌ يفرضه الوعي.
تجلّت وحدة الوعي والعالم في مظهرٍ آخر سيكولوجي، حيث نٌقلت السيكولوجيا الكلاسيكية نقلة نوعية، وبدا أنّ أثر الوعي في العالم على المستوى الدّقيق، ما هو إلاّ مظهرٌ مكبّر لذلك التّأثير، والتّحكّم الذي يمارسه الوعي في علاقته بالدّماغ، أو الجسم الذي يحمله، وبدا أنّه ليس انفصاليًا بعلاقته بالجسد فحسب، وإنّما هو لاانفصالي في علاقته بالعالم أيضًا، أمّا لغتنا، فمازالت متأثّرة بالرؤية الثنائيّة كما هو واضح، فهي تتحدّث عن الوعي والعالم، وعن ارتباطهما بلُغة انفصاليّة، فمازالت لُغتنا قاصرة في التعبير عن هذا التوحّد، ولم نكتشف بعد الّلغة المناسبة لذلك، وتبقى الرياضيات الفيزيائية المستخدمة في نظرية الكوانتم الوسيلة الوحيدة المعبّرة عن هذا التوحّد. والمظاهر السيكولوجية والباراسيكولوجية، مثل التّحريك النّفسي، والتّخاطر، والجلاء البصري، والرّؤية عن بعد، والسّيكومتري، والتّحسّس الإشعاعي …إلخ، كلّها تعبيرات متنوّعة عن ذلك التوحّد بين العالم والوعي.
ويُفهم الوعي بوصفه متوحّدًا مع الطّاقة والمادّة، وإنّ دراسة التّفاعل بينهم تقدّم فهمًا جديدًا للقابليّات الطاقويّة في الكائن البشريّ، ولعمليّات الحياة والمّادة بشكلٍ عام، والمهمّة الرئيسية للساي، هي الفهم الإنسانيّ الواسع والمتقدِّم لقوانين الطّبيعية الحيّة، وغير الحيّة، وبأنواعٍ جديدة من المعرفة، مُشتقّة من دراسة ظهور العمليات الطاقويّة داخل النّفس الإنسانية، إنّ الخاصّية الأساسية للظواهر في حقل الساي، هي التّفاعلات العميقة والدّقيقة التي تحدث بين الكائنات العضوية الحيّة مع بعضها، وبين المّادة الحية والمّادة غير الحيّة، وبين المجال المعلوماتي للبيئة، عبر رؤية لاانفصاليّة للعالم، لاانفصاليّة أيّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ آخر.
*ساي-Psi: الحرف الثالث والعشرون من الأبجدية الإغريقية،وقد أقترح من لندن ثوليس و وايزنر عام 1942،كمصطلح حيادي يعبر عن ناحية منهجية في دراسة الظّواهر النفسية الخارقة، وقد أضاف كارل ناش له اللاحقة “logy” ليقدّم مصطلحًا جديدًا هو “السايولوجي-Psiology»، ويسمّى الحقل بشكلٍ عام باسم الباراسيكولوجي- Parapsychology.
*فيزياء الكوانتم-quantum: هي مجموعة من النّظريات الفيزيائية، ظهرت في القرن العشرين، وذلك لتفسير الظواهر على مستوى الذرّة، والجسيمات دون الذّرية، وقد دمجت بين الخاصيّة الجُسيميّة، والخاصيّة الموجية، ليظهر مصطلح ازدواجية الموجة-الجسيم.
تدقيق لغوي: جيلالي زرّوخي
المصدر: كتاب الوعي والعالم للدكتور صالح الجابري