يبدو أن المعهد الوطني الأمريكي للمعايير والتكنولوجيا (The US National Institute of Standards and Technology _NIST) لا يزال قادرًا على تغيير مفاهيمنا ومسلماتنا الأكثر يقينًا، وهدمها ثم إعادة بنائها من جديد لتنقيح نظرتنا حول المقاييس والقياسات الكونية.
هذه المرة، يبدو أن الدور قد حان على القيمة الأكثر دقة « ثابت بلانك – Planck’s constant »، وهو رقم سيساعد اللجنة المعنية ببيانات العلم والتكنولوجيا على تعديل تعريفها الرسمي للكيلوغرام في العام المقبل. وبحلول الأول من شهر يونيو، حصل المعهد على الأرقام الجديدة في وقت قصير، بفضل التقارير النهائية للمدخلات المعتمدة في التعديلات الجديدة .
ومن أجل ذلك، استخدم العلماء إحدى أحدث التقنيات وهي آلة تسمى بـ « توازن كيبل – Kibble balance » وهي أداة قياس كهروميكانيكية لتحديد هذا الرقم بنسبة خطأ لا تتجاوز 13 جزءًا فقط من مليار جزء. ويعتبر هذا تحسنًا كبيرًا مقارنة بالقياس الأخير الذي كان الارتياب التجريبي فيه يقدر بـ 34 جزءًا من مليار.
وكتفصيل مفيد، فقد حدد المعهد قيمة ثابت بلانك الجديدة بـ 6.626069934 x 10-34 Kg.m2s-1 ، لتحل محل القديمة 6.62607004 x 10-34 Kg.m2s-1 .
ولمن لا يعرف منكم ماذا يعني ثابت بلانك، فهو ثابت فيزيائي له الرمز h ويستخدم لوصف « الكوانتا: أصغر مقدار للطاقة »، وهو بذلك يلعب الدور الرئيسي في ميكانيكا الكم. يعود اكتشافه إلى العالم الألماني « ماكس بلانك – Max Planck » عام 1900 م.
يقابل هذا الثابت قيمة أخرى: ويلفظ” آش بار “، ويسمى عادة « ثابت بلانك المخفض » أو « ثابت ديراك » نسبة للعالم « بول ديراك – Paul Dirac ».
ولكن لم كل هذا الاهتمام بثابت بلانك؟
في الواقع، لقد حصل الثابت على اسمه من ماكس بلانك، الفيزيائي الذي يمكننا أن نشكره على دوره في إطلاق نظرية الكم قبل قرن من الزمن.
وفي حين عُرفت ميكانيكا الكم بتجربة قطة شرودنغر الحية الميتة في نفس الوقت، والجسيمات المخيفة التي تتواصل على بعد مسافات ممتدة، إلا أن جوهر النظرية يكمن في وصفها لـ كمومية الطاقة. فإن عملية انتقال الطاقة لا تتم مثل تدفق المياه، ولكن بالأحرى مثل تساقط حبات الرمل، بقيم وكميات محددة تسمى كوانتا.
وقد عمل بلانك على ذلك من خلال قياساته للإشعاع الحراري المنبعث من الذرات المتذبذبة، وحدد أن ترددات الموجات كانت كلها مضاعفات لرقم أساسي سماه h. ففي القيم الناتجة، يمكن لهذا الرقم أن يأخذ قيمًا مقدارها 2h أو 3h، ولكنه لا يأخذ القيمة ½ h أبدًا، مما يتيح لنا قيمًا أو ‘حبوبًا’ من الطاقة. هذا هو ما يسمى الآن ثابت بلانك، ويمكن أن يتضاعف في وتيرة موجة معينة لتحديد طاقتها الإجمالية. ويمكن أن يستعمل ثابت بلانك في وصف الكتلة، كما أظهرت، من قبل، نسبية أينشتاين تلك العلاقة بين الكتلة والطاقة وكونهما وجهان مختلفان لنفس العملة.
في الماضي، كانت وحدات القياس قائمة على بعض الأساسيات من طول وعرض والتي يتم عادة إيجادها في الطبيعة. على سبيل المثال، فإن أساس شبر واحد هو طول ثلاثة بذور من الذرة، وكان الباوند في وقت من الأوقات يتم قياسه بشكل موحد: وهو وزن 57600 بذرة من بذور الذرة. ومع مرور الزمن، ظهرت حاجة ملحة لتوحيد القياسات والتماس الدقة فيها، وذلك بالعمل على إيجاد ثوابت عالمية أكثر دقة وأكثر اتساقًا لتوحيد وحدات القياس من طول وكتلة. إذ تستند الثانية الآن في قيمتها ومعناها على الوقت الذي تستغرقه ذرة لتهتز ذهابًا وإيابًا في ظل ظروف معينة، ويحدد المتر بطول مسار الضوء في الفراغ خلال جزء من تلك الثانية.
لفترة طويلة، تم مقارنة الكيلوغرام بمرجع واحد: « Le Grand K»، وقد تم الاحتفاظ بأسطوانة البلاتين والإيريديوم هذه في قبو في باريس وكان كل العالم يقارن كيلوغراماته بها. إلا أنه، ومع مرور الوقت، ستصبح هذه الكتلة غير متناسقة، إذ يمكن أن تفقد بعضا من ذراتها وتتشرد. ولقد اتُفق على الطريقة الواحدة لتوحيد قيمة الكيلوغرام هي تحديده بعدد معين من ذرات عنصر معين. وفي عام 2011، قرّرت اللجنة الدولية للأوزان والمقاييس رسميًا أنه لا يمكن الحصول على قيمة أكثر اتساقًا من ثابت بلانك، لذلك حددت تعريفًا رياضيًا للكيلوغرام على أساس قياس ثابت بلانك.
ومع أن قيمة الثابت لا تتغير، فإن تخميناتنا عن قيمته بأكبر دقة ممكنة تتحسن بفضل الكثير من البيانات التي يتم معالجتها. أداة توازن كيبل المستخدمة من قبل المعهد عبارة عن كتلة متصلة بذراع مع لفائف الأسلاك داخل مجال مغناطيسي، أين يتم تمرير تيار كهربائي من خلال اللفائف فينتج مجال مغناطيسي آخر الذي بدوره يدفع ضد الكتلة. ويعتمد الباحثون في تحديد ثابت بلانك على قياسات التيار وحركة الذراع مع وجود الكتلة وبغيابها، مع استخدام معادلات رياضية خاصة. كما توصل المعهد إلى قيمة الثابت الجديدة باستخدام مجموعة أكبر من النتائج وفهم أفضل لخصائص المجال المغناطيسي للجهاز، أي أن الأمر لم يعتمد على الحصول على توازن أفضل في الجهاز.
يقول « ستيفان شلامينجر – Stephan Schlamminger »، رئيس الفريق ،” نحن بحاجة إلى ثلاث تجارب مع ارتياب أقل من 50 جزءًا في المليار، وآخر بارتياب أقل من 20 جزءًا في المليار، ولكننا لا نملك إلا ثلاث تجارب أقل من 20 جزءًًا في المليار “.
رغم ذلك، ومع هذه الأرقام الجديدة، يأمل المعهد في تحسين التعريف الحالي للكيلوغرام عند اعتماد المعيار الجديد في نوفمبر من العام القادم.
المصدر: هنا