رَغم الجُهود التي تَضافَرَت على مدى عُقودٍ لِمحاولة حَل مُشكلة التَّشخيص في عِلم النَّفس الإكلينيكي، ولكن ما تزال المشكلة دون حلٍّ كلِّي رَغم الوجود الجزئي، فعلم النفس علم عميق جداً، وبالرَّغم من كل تلك السنوات التي سمعنا فيها اِسمه، إلا أنه علم حديث ومعاصر، رغم الجذور الفكرية الممتدة إلى عصور ما قبل التاريخ، والإنسان بدوره في جانبه النفسي من أعمقِ وأَعْقَدِ الأشياء التي يُحاول التشخيص فك شيفراتها ولو في جانبها المضطرب.
وإذ يقول “لاجاش”: إننا لا نَستَطيعُ الفَصل ما بين الأشكال المُتَكَيِّفة والأشكال المُضطَرِبَة للسلوك، لأننا لا نَرجِعُ إلى القُصور البالي القَائل بالإتصال والتجانس الكامل، ولا نستطيع الفَصل بين الصِّحة والمَرض، ولكننا نَرى فِيهِما نِهايتين مُختلِفتَيْن للصِّراع لا يستطيع عِلم النفس الإكلينيكي إلاَّ أن يَضَعَهُما الواحد بالنسبة للأخر.
إنَّ المَعرِفَة بأسبَاب الإضطِرابَات والأمراض العَقلية والنَّفسية يُعَاني نَقصًا فادِحًا؛ فالنَّظريات التي فَسَّرت لنا العُصَاب (المرض النفسي) أو الذُّهَان (المرض العقلي) مَسَّت جَانبًا واحدًا من التفسير؛ فمَثَلاً النَّظرة التحليلية مَسَّت الجوانب الغَرائزية، وكذلك السُّلوكية التي مَّسَّت الجَانب الآلي، إلى غير ذلك من النَّظريات الأخرى التي فَسَّرَت الأسباب من وجهة نظرِ المَدرسة والمُسَلَّمَات المُنطَلَقِ مِنها، إلا وأن النظرة التكاملية ورَغمَ شُموليتها لِجوانبِ الإِنسان ونظرتها الكُلِّية، بَقِيَت قَاصرةً على فَهمِ الأَسبابِ الحَقيقية.
(شقير، 2002، صفحة 38)
ويقول “كاميرن”: إن كُل المُحَاوَلات الحَاليَّة لتَصنيف أَنواع الإضطراب الوَظيفي للشَّخصية، تُعَد غير مُرضية، ويَنطبق هذا على أَنواعِ العُصاب، كمَا يَنطبق على أنواع الذُّهان، فليس هناك كائنات حَية مُسَبِّبَة، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نرجِعَ إليها كما هو الحال في الأمراض المُعدية، ولا توجد إصابات عضوية محدَّدة كما هو الحال في الأمراض التي تُنسَبُ إلى جِهازٍ معين من أجهزة الجِسم.
كما أن الجهاز العصبي لا تبدو عليه تغيرات مُشتقة يُمكن ربطها بزملات الأعراض، كما هو الحال في أنواع الإضطربات العصبية، وعليه يكون من الضَروري أن يَتحقق الأشخاص الذين يَعملون في مَيدان الشُّذوذ من أن التَصنيفات الرَّسمية الحَالية للأمراض النَّفسية لا تقوم على أَساسِ دليلٍ علميٍ حاسمٍ ومقنع، إنما هي وَليدة الضَّروريات العلمية، وتَعتَمد القَرارات المُتَّصِلَة بالمجموعة التي يُصَنَّف تَحتَها إضطرابٌ سُلوكيٌ مُعين على الإطار الذي تَم تَبَنِّيه، وقد تَحَدَّدَ هذا الإِطار في كُلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا من خلال أصوات الأعضاء المُمارسين في الجَمعيات الكبيرة.
وعليه فَقد فَشَلَ الطِّب النَّفسي في تَقديم نظامٍ مقبولٍ للتصنيف، ولا نَتَبَيَّنُ هذا فقط من ضرورة إِدخال مُحَكاة غير علمية (مثل الاتفاق العام) وإنما يتضح كذلك من إضطراب (عدم الثبات) الاِستخدام الحالي لنَسَقِ التَّصنيفِ الذي يَستخدِمُه أطباء الأمراض النَّفسية ذوي الخِبرَة.
(شقير، 2002، صفحة 38).
عُموماً أصبحَ التَّشخيص مشكلةَ العَصر في عِلم النَّفس العِيادي خاصةً، وهذا لا يعني قُصورُه عن عِلاج وكَشفِ بعض الإِضطِرابات النَّفسية، ولكن يعني أنه مازالَ في طَور النمو، أَي أن عِلم النَّفس مازالت تَطغى عليه بعضُ النِّسبية، فهو يَقع بين جانِبَين، الأول عُضوي مَادِّي بَحت، وهو الجانب الفزيولوجي وما يخص الأعصاب، أما الجانب الأخر الفكري، وهو ما يَمُس الأَفكار وتَعديلها، أي أنه الشيئ الذي يَحمل النَّقيضَين في المَعنى الواحد، فالأفكار تُؤثر في تغير اللُّيونة العَصبية للجانب الفِزيولوجي، وبعض الهُرمونات في الجانب الفزيولوجي تؤثر في الأفكار ومزاج الإنسان.
وقد ذَهب البَعض المُتطرف من عُلماء النفس العصبي إلى نُكران الجَانب النَّفسي واِعتبار الإنسان جَانباً جِسمياً فقط، وأن ما تَبَقَّى من أفكار وتخيلات هي خُدعةٌ من الأَعصاب؛ وذَهب آخرون إلى نُكران الجَانب الفزيولوجي، واِعتبار الهُرمونات والإختلالات هي تَحصيلُ حاصِلٍ لأَفكارِنا وبين هذا وذاك وَقَع الإشكال في تَشخيص الاضطراب، ولكن ورَغم هذا الصراع العنيد، إلاَّ وأنه قد وُلِدَ لَنَا العَديدُ من التِّقنيات والتشخيصات المُختَلِفة التي سَاعدت على عِلاج كثيرٍ من الإضطربات والوقاية من عديد الإختلالات النفسية.
تدقيق لغوي: أنس شيخ
تصميم: رامي نزلي
المراجع:
- محمود زينب شقير، علم النفس العيادي و المرضي للأطفال و الراشدين ، المجلد 1، دار الفكر، سلطنة عمان، 2002.