التأثير الشبحي عن بعد (اللامحلية – التأثير السببي الأسرع من الضوء) كان أحد اعتراضات “أينشتاين” على ميكانيكا الكم، وقد خصصّنا ثلاثة أجزاء توضّح الاعتراض وأسبابه وحقيقته، ومقالنا اليوم مُخصّص لإعتراض آخر لـ”أينشتاين” على ميكانيكا الكم، وهي أنها لا تصف واقع موضوعي أو حقيقي للجُسيّمات. تُخبرنا ميكانيكا الكم أن الجُسيمات على المُستويات شديدة الصِغر، لا تخضع للسببية، قد تنبثق من الفراغ بدون أي سبب، وتتحدد قيم خصائصها وتحدث لها النتائج عشوائياً بدون أية أسباب، العشوائية المُتأصّلة في الطبيعة هي ما يُمكن أن نصف به العالم على المُستوى الكمومي، ولا يوجد واقع فيزيائي حقيقي للطبيعة على ذلك المُستوى، حتّى يتدخّل الوعي بالرصد، أو تتفاعل الدالة الموجية للجسيم مع أدوات العالم المرئي لتتجسّد نتيجة ما عشوائيًا ظهرت بدون سبب للجسيم، وبسبب ذلك توقف “أينشتاين” فجأة وأشارَ للقمرِ قائلاً “لنيلز بور”: أتريد أن تقنعني أن القمر ليس موجوداً لو لم نكن ننظر إليه؟” ولفهم لماذا اعترض اينشتاين على ذلك سنحتاج لمعرفة المقصود بالعشوائية في ميكانيكا الكم وما الفرق بينها وبين العشوائية التي نعرفها.
العشوائية في ميكانيكا الكم:
قبل الخوض في عشوائية ميكانيكا الكم يجب علينا تعريف مفهومين فلسفيين مهمين بالنسبة لميكانيكا الكم، والتأكد من رسم الفواصل بينهما جيداً، لتجنّب الخلط، مفهومي العشوائية واللاحتمية. إن العشوائية التي نعرفها تعني أن الطبيعة مُحدّدة، بغض النظر عن قدرتنا على معرفة ذلك التحديد، فمثلاً عند رمي عُملة معدنية فنحن نقول أنها تستقر على أحد الجوانب بطريقة عشوائية، بإحتمالية خمسون بالمئة لكل وجهٍ، لكن هذا يعني أنه لو جمعنا كل متغيرات رمي العملة من قوة الرمية واتجاهها ولزوجة الهواء وقوة الجاذبية ووزن العملة وملمس وصلابة المكان الذي ستقع عليه العملة وحساب تأثيراتهم، فإننا سنستطيع تحديد على أي وجه ستسقط العملة في النهاية، بدون أية احتمالات، هنا نقول أن العملية نفسها مُحدّدة ولها أسبابها التي يُمكن حسابها نظرياً والتنبؤ بها، بغض النظر عن قدرتنا العملية على ذلك، فقبل أن تسقط العملة يوجد لها واقع محدد بغض النظر عن قدرتنا على معرفته. أما (اللاحتمية) فتعني أنه لا يمكننا التنبؤ على أساس غير احتمالي بعملية ما، ليس لأنه من الصعب جمع مُتغيرات العملية وحساب تأثيراتها، بل لأنه لا توجد مُتغيرات حتى نحسبها، أو لا يوجد واقع حتى نعرفه أصلاً، فالعملية غير مُحدّدة وتحدث نتائجُها بدون أية أسباب، وكل النتائج ممكنة. يجب ملاحظة أن التعريفان يضمنان العشوائية، لكن الأوّل منهم لا يضمن إلا العشوائية المعرفية، بمعنى آخر أن العشوائية ناتجة فقط عن قلة معرفتنا بجميع ظروف العملية، لكن (اللاحتمية) تضمن العشوائية الوجودية او الانطولوجية، بمعنى آخر، إن عشوائية اللاحتمية ناتجة من أن الطبيعة بالأساس ضبابية وغير مُحدّدة وفيها نتائج تحدث بدون أسباب، وحينما يعترض أحدهم على عشوائية ميكانيكا الكم، فهو يقصد لاحتمية ميكانيكا الكم، لأن العشوائية المعرفية ليست مشكلة نظرية على الإطلاق، لكن اللاحتمية هي التي تعد مشكلة نظرية لأي نظرية علمية، اولًا لأنها لا تخضع للسببية وفكرة العلم كلها قائمة على السببية بالأساس، لأن العلم يفسّر كيف تعمل الطبيعة من خلال التأثير السببي، بينما العشوائية المعرفية تخضع للسببية لكن تكون النتائج إحتمالية لاننا لا نستطيع تحديد جميع الأسباب وحساب تأثيراتها، وثانيا لأن اللاحتمية ليست واقعية فهي تعني أنه لا يوجد واقع خارج عقولنا، أو نحن من نخلقه! لنأخذ مثال بسيط على أحد الخصائص الغامضة التي نخلقها نحن في ميكانيكا الكم:
اللف المغزلي:
اللف المغزلي (Spin)، مجرّد مُصطلح لخاصية تصاحب الجُسيمات دون الذرية، لا يعلم أحد جوهرها حتى الآن، لأنه ليس لها مثيل نعرفه، وربما لن يعلم أحداً جوهرها فيما بعد لأنه لو صحت نظرية الفيزيائي (ديفيد بوم) فإن هذه الخاصية ليست خاصية جوهرية للجسيمات ليعلم أحداً جوهرها، وفيما يلي وصف لما نعرفه عن تلك الخاصية طبقاً لرياضيات نظرية ميكانيكا الكم: للفراغ ثلاث محاور (X,Y,Z) :
لِلّف المغزلي إتجاه على محاور الفراغ الثلاثة (X, Y, Z)، بحيث يكون اتجاهه أعلى أو أسفل كل محور، أي أنّ اللف المغزلي قد يكون اتجاهه لأعلى أو لأسفل المحور (X)، وهذا يَنطبق أيضا على باقي المحاور (Y, Z). سنحتاج لمعرفة حقيقة أخرى بخصوص اللف المغزلي، حينما نقوم بقياس اللف المغزلي على محور معين لأول مرة، يتحدّد اتجاهه بطريقة احتمالية، عشوائيّة تماماً ولا يمكن التنبّؤ بها من خلال ميكانيكا الكم المعيارية على أيّ أساس غير إحتمالي، أي أنّنا لو قمنا بإجراء أوّل قياس لِلّف المغزلي لجُسيم ما على محورٍ ما سنجد الاتجاه بإحتمالية خمسون بالمائة لأعلى، وخمسون بالمئة لأسفل، لكن بمجرّد أنْ تم قياس اللف المغزلي لأوّل مرة للجُسيم على محورٍ ما، فإن اللف المغزلي يستقر لهذا المحور على الاتجاه الذي وجدناها عليه أول مرة، بحيث لو قمنا بقياسه على نفس المحور لنفس الجُسيم عدّة مرّات بعد ذلك بوقتٍ قصير أو طويل سنجده حتما على نفس الإتجاه، فمثلاً إن قمنا بقياس اللف المغزلي على المحور (X) ووجدناه لأعلى، يظل اللف المغزلي على هذا الاتجاه، بحيث إن قمنا بقياسه عدة مرات بعد ذلك على نفس المحور (X) في أيّ وقتٍ سنجده دائمًا على نفس الاتجاه وهو لأعلى، وكل هذا بشرط عدم حدوث أيّ تفاعل للجُسيم مع المؤثرات الخارجيّة، وعدم إجراء قياس لِلّف المغزلي على المحاور الأخرى (Y, Z) في نفس الوقت الذي يتم قياسه على المحور (X)، وإن إنتُهكت تلك الشروط، وبعدها قمنا بإجراء قياس اللف المغزلي على نفس المحور وهو في مثالنا المحور (X) قد نجده لأعلى أو لأسفل ذلك المحور بإحتمالية خمسون بالمائة مرة أخرى لكل إتجاه.
هنا يَتّضح فشل ميكانيكا الكم في نقطتين،
فشل ميكانيكا الكم:
النقطة الاولى: لا تخبرنا ميكانيكا الكم على أي أساس يتّحدد إتجاه اللّف المغزلي في أول قياس، لأن إتجاهه يكون غير مُحدّد بالأساس قبل اجراء القياس، وكل ما يمكن أن تقوله مبادئ ميكانيكا الكم عن ذلك أن عملية قياسنا لِلّف المغزلي هي ما تجعل الدالة الموجية للجُسيم تنهار ممّا يجعلها تُحدّد اتجاه اللف المغزلي بطريقة عشوائية لاحتمية غير مُحدّدة ولا يمكن التنبّؤ بها على أساس غير احتمالي، أو بمعنى أدق بدون سبب، اعترض “أينشتاين” على تلك العشوائية المُتأصلة في ميكانيكا الكم بمقولته “الله لا يلعب النرد” ولنعرف إذا كانت مقولة أينشتاين تلك صحيحة ام لا، سنكون بحاجة لتفسير ظواهر الطبيعة على المُستوى الكمومي من خلال نظرية أخرى تعرّضت للكثير من سوء الفهم، ومبادئها في الحقيقة اكثر شفافية من غموض مبادئ نظرية ميكانيكا الكم المعيارية.
النقطة الثانية: لا تُخبرُنا ميكانيكا الكم لماذا يظل اللف المغزلي مُستقر على نفس الإتجاه الذي تم قياسه عليه أول مرة؟ لنعرف لماذا سنحتاج لتحليل عملية قياس اللف المغزلي من خلال نظرية أخرى غير النظرية التي فشلت في ذلك.
جمال نظرية بوم:
عملية قياس اللف المغزلي في الحقيقة تتم من خلال جهاز (Stern–Gerlach)، لا تهتم للإسم ولا لمعناه، يمكن تشبيه الجهاز بصندوق، يدخل الجُسيم الذي نريد قياس إتجاه لفه المغزلي من فتحة في أحد جوانب الصندوق كما بالصورة، وهنا سيتبع الجسيم أحد المَسارَين داخل الصندوق، بحيث يخرج الجُسيم من فتحة بأعلى الصندوق إذا كان إتجاه لفه المغزلي لأعلى، أو يخرج من فتحة بأسفل الصندوق إذا كان اتجاه لفه المغزلي لأسفل:
طِبقاً لميكانيكا “بوم” فلا وجود موضوعي لخاصية اللف المغزلي، تعتبر ميكانيكا “بوم”، أن عملية قياس اللف المغزلي في ميكانيكا الكم، هي في الحقيقة عبارة عن قياس الموضع النهائي للجسيم، موضع الجسيم الاوّلي قبل دخوله الصندوق هو ما يُحدّد أي المسار سيتبعه الجُسيم داخل الصندوق حتى يصل لموضعه النهائي، هكذا يتحدّد أي إتجاه لِلّف المغزلي سيقيسهُ الجهاز.
أي أن موضع الجُسيم الابتدائي قبل دخول الصندوق هو ما يُحدّد إتجاه لفّه المغزلي، لأن موضع الجُسيم الابتدائي هو ما يحدّد موضعه النهائي، وموضعه النهائي هو الموضع الابتدائي لعملية القياس التالية وهكذا، هذا الموضع الابتدائي ما سيحدد نفس الإتجاه في كل عمليات القياس التالية، وكما نُلاحظ في الصورة في أوّل قياس دخل الجُسيم بوضع ابتدائي لأعلى، ولذلك خرج من صندوق القياس الأوّل كما لو كان إتجاه لفه المغزلي لأعلى، وهذا نفسه ما حدث في صندوق القياس الثاني.
طبقاً لأبحاث الفيزيائي “دي براولي” فإن كل جُسيم تصحبه موجه، وطبقاً لأبحاث الفيزيائي “شرودنجر” فإن تلك الموجة مع ظروف التجربة يُحدّدان ما نعرفه بإسم الدالة الموجية، تلك الدالة الموجية تُحدّد ما يَعرِفهُ الفيزيائيون بإسم (الحالة الكمومية).
وطبقاً لنظرية “بوم” فإنه عند قياس إتجاه اللف المغزلي فإن الجُسيم سَيعبرُ مساراً ما في الصندوق، طبقاً لموضعه الابتدائي كما في الصورة السابقة، وهذا المسار في مثالنا لأعلى، لكن الموجة بما أنها موجة تواجه مسارين فستنقسم نصفين، نصف في كل مسار لأعلى ولأسفل، يصحب الجُسيم نصف الموجة داخل الصندوق في المسار لأعلى، وبالتالي يخرج الجسيم بحالة كمومية جديدة ناتجة من نصف موجة فقط مع ظروف المسار الجديد لعملية القياس التالية، هذا النصف يدفع الجسيم فقط للإتجاه لأعلى، وبالتالي يؤثر ذلك النصف على حركة الجسيم بحيث يبقى إتجاه لفه المغزلي لأعلى، مهما تكرّرت القياسات ستخرج بنفس النتيجة، لأنك تقيس جُسيم بنصف موجته والتي تدفعه فقط لأعلى، إلى حين رجوع النصف الآخر بأي طريقة، والذي قد يدفع الجسيم لأسفل حينما يحدث تداخل بين النصفين وبالتالي يعود الجُسيم بحالة كمومية ذات إحتمالية مرة أخرى خمسون بالمائة بإتجاه لف مغزلي لأعلى وخمسون بالمائة بإتجاه لف مغزلي لأسفل، كما كان يحدث في أوّل قياس، والذي أكدت ميكانيكا الكم أن نتيجة ذلك القياس غير مُحدّدة او لاحتمية وليس لها سبب، لكن نتيجة القياس هنا سببها تداخل نصفي الموجة معًا، والاحتمالية او العشوائية هنا تحدث نتيجة قلة معرفتنا بظروف تداخل نصفي الموجة معًا، ونتيجة أوّل قياس يحددها التوزيع العشوائي الطبيعي لمواضع الجُسيمات الابتدائية، ذلك التوزيع العشوائي في مواضع الجُسيمات الابتدائية له أسبابه، أي أن كل جُسيم له موضع أوّلي ما، مُحدّد طبقاً لأسباب مُحدّدة من ضمنها تداخل الموجات المختلفة التي تصحب الجُسيمات التي تُكوّن النظام كله معاً بحيث تكون المحصلة حالة كمومية مختلفة تدفع كل جُسيم لموضع ما، بما فيها موجات فوتونات القياس التي تخرج من أدوات القياس نفسها، وبالتالي فإن إتجاهات اللف المغزلي مُحدّدة دائماً بغض النظر عن قدراتنا العملية على حساب تلك الأسباب على عكس تفسير ميكانيكا الكم بأنه يتم تحديد اللف المغزلي لأول مرة بطريقة غير مُحدّدة أو لاحتمية أو بدون أسباب حقيقية، وبالتالي فإن عشوائية الطبيعة على المُستوى الكمومي معرفية أي أن قدرتنا على التنبّؤ بنتائج القياس محدودة ولكن الطبيعة نفسها مُحدّدة وحتمية، ولا يلعب الله النرد، كما أكّد “أينشتاين”.
اعترض “أينشتاين” على ميكانيكا الكم من جهتين، أوّلهما التأثير السببي الأسرع من الضوء، وهذا سبب اعتراضه أيضاً على ميكانيكا “بوم” لانها لامحلية صراحة، وهنا تدخل “بيل” ليُثبت خطأ “أينشتاين”، حيث أثبت أن الطبيعة لامحلية على المُستوى الكمومي، وفي هذا انتصار لكل من ميكانيكا الكم وميكانيكا “بوم” على “أينشتاين”، بالعادة يسوّق الأغلبية أن نظرية “بيل” تُثبتُ خطأ كل النظريات التي تفسر العالم الكمومي لصالح ميكانيكا الكم المعيارية، وفي هذا اختزال مُجحف لما تقوله نظرية “بيل”.
والاعتراض الثاني أن ميكانيكا الكم لا تصف واقع موضوعي مُحدّد للجُسيمات، وهنا يتفق “أينشتاين” مع ميكانيكا “بوم” لانها تصف واقع موضوعي حقيقي مُحدّد للجُسيمات.
وهذا يعني أن ميكانيكا “بوم” لامحلية ولا تُعارِض نظرية “بيل”، وفي نفس الوقت تصف واقع موضوعي حقيقي ومُحدّد للجُسيمات كما كان يحلم “أينشتاين”.
Making sense of Quantum Mechanics, Jean Bricmont
ــــــــــــــــــ
تدقيق :عقيل الزيادي