مَن منّا لم يَلعب بالمغناطيس في صغره؟، ومن منّا لم يُعجب بقوته الساحرة؟، لكن من منّا طرح في نفسه التساؤل التالي: كيف يعمل المغناطيس؟، أو لماذا تستجيب قطعة حديد لتأثيره بينمَا قطعة أخرى من النحاس لا تستجيب؟ فيما يلي سنحاول فك شيفرة المغناطيس واكتشافِ خباياه.
المغناطيس هو أي جسم ينتج لنا مجالًا مغناطيسيًا، هذا المجال غير المرئي هو المسؤول عن القوة التي يؤثر بها المغناطيس على الأجسام المغناطيسية الأخرى بالجذب أو الصد.
المغناطيس له قطبان مختلفان أحدهما شمالي والآخر جنوبي، القطبان المتمايزان يتجاذبان أمّا القطبان المتماثلان يتنافران، ولا يمكن أبدًا فصل قطب عن آخر أي أن يكون هناك مغناطيس شمالي فقط أو جنوبي فقط كما هو الحال في الكهرباء التي يمكننا فيها فصل الشحنات الموجبة عن الشحنات السالبة.
لفهم آلية عمل المغناطيس يجب أن ننزل لمستوى الجسيمات ما دون الذرية، جميعنا يعلم أن ذرة أي عنصر مكونة من نواة تحوم حولها سحابة إلكترونية والنواة بدورها تتكون من بروتونات ونترونات، وعرف في ستينيات القرن الماضي أنّ البروتونات والنترونات هي أيضًا مكونة من جسيمات أوليّة تدعى الكوارك.
تتميز الجسيمات الأولية كالإلكترونات والكوارك بخواص جوهرية كالكتلة والشحنة الكهربائية، بالإضافة إلى العزم المغناطيسي الذاتي ونقصد بهذا الأخير أنّ كل جسيم ذو شحنة كهربائية ماهو إلّا مغناطيس صغير، يستمد مغناطيسيته من لفه المغزلي حول محوره ممّا يكسبه قوة مغناطيسية، وبذلك تكون للذرة قوتان مغناطيسيتان، إحداهما مصدرها البروتونات وبالتالي النواة، والأخرى مصدرها الإلكترونات .
لكن القوة المغناطيسية للبروتونات أضعف من القوة المغناطيسية للإلكترونات بنحو ألف مرة ،وبهذا لا يكون لنواة الذرة أي تأثير على مغناطيسيّة الذرة بالمجمل، وتكون مغناطيسيّة هذه الأخيرة من مغناطيسية إلكتروناتها .
كان الإعتقاد السائد قبل عشرينيات القرن العشرين: أن للإلكترونات مدارات دائرية بسيطة حول النواة، لكن ميكانيكا الكم بيّنت أن الأمر أعقد ممّا كنّا نتصور بكثير، وبدلًا من ذلك أعطت لنا أربع أعدادٍ كميّة تحدد لنا إحداثيّات الإلكترون في ذرة ما وهي:
- عدد كم رئيسي n: يحدد الغلاف الرئيسي الذي يوجد فيه الإكترون في الذرة.
- عدد كم ثانويl: يحدد عدد وشكل الأغلفة الفرعية في الغلاف الرئيسي الواحد، حيث يحتوي كل غلاف فرعي على فلك واحد على الأقل، تُعرّفُ الأفلاك بأنها فراغات منتشرة في مواقع مختلفة حول النواة يكون فيها احتمال تواجد الإلكترون أكبر ما يمكن، ولكل فلك حجم وشكل واتجاه .
- عدد كم مغناطيسي m:يحدد عدد الأفلاك في الغلاف الفرعي الواحد.
- عدد كم مغزلي s: يحدد اتجاه دوران الإلكترون حول نفسه داخل الفلك .
حيث يحمل كل فلك إلكترونين اثنين كحد أقصى ويكون لهما حركة مغزلية حول محوريهما أحدها في اتجاه عقارب الساعة والآخر عكس عقارب الساعة، ولا يمكن أبدًا أن يكون لهذين الإلكترونين نفس مُتّجه اللّف المغزلي (حسب مبدأ الاستبعاد لباولي). وبهذا تكون للإلكترونات حركتين اثنتين، الأولى: حركة داخل الأغلفة وتكون في جميع الإتجاهات وبالتساوي وبذلك تتعادل التيارات المتولدة عنها وتكون محصلة المجالات المغناطيسية الناشئة من هذه الحركة معدومة ، أمّا الثانية فهي لف الإلكترون حول محوره، لكن وبما أنّ الإلكترونات تكون في ثنائيات متعاكسة في جهة اللّف فإنّ محصلة مجاليهما المغناطيسيان أيضًا معدومة.
إلّا أنه وفي الأغلفة نصف الممتلئة تكون الإلكترونات كلُّها فرادى ولها نفس جهة اللف المغزلي وبهذا تضاف المجالات المغناطيسية الناشئة عنها لبعضها البعض، وتكون بذلك القوة المغناطيسية للذرة نابعة من غلافها الخارجي.
إذًا فالذرات التي تكون فيها الطبقة الخارجية نصف ممتلئة تتمتع بقوة مغناطيسية عالية كالحديد والكوبالت والنيكل والمنغنيز .
لكن تمتع الذرة بالقوة المغناطيسية لا يعني بالضرورة أن المادة المكونة منها ستكون مغناطيسية، وبهذا ننتقل من مستوى الذرات إلى مستوى البلورات.
عندما تجتمع مجموعة من الذرات المغناطيسية لتكوين مادة صلبة، عادة ما تكون أمام خيارين اثنين، إمّا أن تصطف المجالات المغناطيسية للذرات كلها في اتجاه واحد، أو أن تصطف بالتناوب، بحيث يبطُل تأثيرها.
وتختار الذرات الخيار الأقل استهلاكًا للطاقة، لهذا السبب ذرة الكروم مثلًا عالية المغناطيسية، لكن الكروم كمادة صلبة لا يتمتع بأيّ مغناطيسية، ذلك لأنّه أحد أقل المواد المعروفة مغناطيسية حديدية، الحديد في المقابل هو أصل تسمية المغناطيسية الحديدية، فلَا عجب في أنّه ذو مغناطيسيّة حديدية.
يوجد مستوى أخير ونهائي للقوة المغناطيسية وهو مستوى المنطقة، فحتى في المواد المغناطيسية حيث تتراص المجالات المغناطيسية للذرات بمحاذاة بعضها البعض، يمكن أن تصطف الذرات في جزءٍ من المادة في اتجاه، وتصطف ذرات جزءٍ آخر في اتجاهٍ آخر، وهكذا.
ومن ثمة فقد تفتقر قطعة من الحديد على سبيل المثال إلى أي مجالٍ مغناطيسي بسبب إبطال منطقةٍ تأثير الأخرى وهكذا، إلّا أنه إذا شغلنا مجالاً مغناطيسيًا ذا قوةٍ كافية من خارج المادة فقد يُوَحِّد هذه المناطق ويحاذي بعضها الآخر، وبالتالي تصطف كلّها في اتجاهٍ واحد.
في الأخير المغناطيسيّة خاصية كمية بالأصل مُعممة لتبلغ حجم الأجسام العادية، فحتى يكون الجسم العادي مغناطيسيًا، يجب أن يتمتع بمناطق موحدة ومحاذية لبعضها البعض، وكل منطقةٍ منها تتألف من عدد لا حصر له من الذرات المغناطيسية التي لابد أن تكون هي الأخرى مصطفة في الإتجاه ذاته، وكل منها لا يمكن أن يكون مغناطيسيًا في الأساس إلّا إذا كان يمتلك طبقةً خارجية من الإلكترونات نصف ممتلئة بحيث تَكون مجالاتها المغناطيسية مصطفة في اتجاه واحد، ولا يبطِل كلٌ منهَا تأثير الآخر، ولا شك أنّ هذه المعايير يصعب إستيفاءُها، وبهَذا فإنّه يوجد عددٌ محدودٌ من المواد التي يمكن استخدامها في صنع مغناطيس.
تدقيق: جمانة لمونس