العلاج بالصدمات الكهربائية واستئصال جزء من الدماغ، الاستشفاء الإجباري، والوصم بالعار الأبدي بالنسبة للمرضى النفسيين كانت عبارة عن ممارسات يومية وعادية جداً في الماضي القريب، لكنها تغيرت بفضل رواد في الطب النفسي ومختلف العلوم .
فكيف ساهمت تجربة روزنهان بالتحديد في دفع حركة مكافحة الطب النفسي إلى الأمام في سبعينيات القرن الماضي؟ وكيف أثرت الحركة على الطب النفسي وغيرت بعضا من أساليبه جذريا؟ أولا وقبل الحديث عن آثار التجربة وحركة مكافحة الطب النفسي لابد أن نُعرِّف بهما.
ظهر مصطلح مكافحة أو مناهضة الطب النفسي لأول مرة خلال ستينات القرن الماضي في كتاب psychiatry and anti-psychiatry للكاتب ديفيد كوبر والذي انقلب من كونه طبيباً نفسياً إلى أحد أكبر منتقدي الطب النفسي الحديث وأساليبه العلاجية. وقد فتح هذا الكتاب المجال لباحثين آخرين لنشر كتب ومقالات علمية تحمل نفس التوجه.
أما المصطلح فيشير إلى حركة عالمية تهدف إلى تحدي ممارسات الطب النفسي ونقدها مع طرح مناهج بديلة لعلاج الأمراض النفسية. فيما يخص أفكار الحركة فقد ظهرت بصفة عامة منذ ظهور الطب النفسي بحد ذاته حيث دعى الكثير من العلماء إلى عدم اعتباره علما وشككوا في مدى مصداقية التشخيصات وموثوقية العلاجات الموصوفة. من أبرز العلماء الذين تبنوا هاته الحركة نجد الطبيب النفسي دافيد كوبر وأستاذ الطب النفسي توماس سزسز المشهور بكتابه “أسطورة المرض النفسي”، بالإضافة إلى جوزيف بيركي ودافيد روزنهان. بالإضافة إلى علماء من مختلف الميادين. لكن المثير للاهتمام هو رفضهم اعتبار الحركة ثورةً ضد النظام بل دعوة للتجديد والاصلاح، ونشير كذلك إلى اختلاف توجهاتهم السياسية وخلفياتهم..
من دوافع ظهور الحركة بقوة في تلك الفترة بالتحديد هي التشخيصات الاعتباطية التي أثارت حنقاً في الأوساط العلمية بالإضافة إلى الممارسات اللاإنسانية بحق المرضى النفسيين، مثل العلاج بالصدمات الكهربائية ضد إرادتهم، والإبقاء عليهم داخل المستشفيات لفترات طويلة مع رفض طلبات تسريحهم والاستخدام المكثف للأدوية. يقول ريتشارد واغنر: “لا أستطيع أن أرى المنطق في علاج شخص حزين كما لو كان هناك شيء ما به، ومع ذلك يحدث ذلك طوال الوقت… تذهب إلى الطبيب مع أعراض حزن و حسرة فيرغمونك على أخذ مضادات الاكتئاب. ”
في عام 1972، تلقى الطب النفسي صفعة موجعة بعد نشر العالم روزنهان تجربة قام بها هو وبعض من مساعديه في مجلة العلوم بعنوان “أن تكون عاقلا في أماكن مجنونة”، حيث قام هو ومجموعة من مساعديه بتجربتين لإثبات أن الطب النفسي الحديث ليس قادراً على تشخيص الامراض النفسية بكفاءة وأن الأمراض النفسية ما هي إلا رد فعل على بيئة عدائية أُجبر المريض على التواجد بها. في التجربة الأولى قام روزنهان بمساعدة 3 علماء نفس، طبيب أطفال، رسام وربة بيت بتزييف أعراض الهلوسة، وكانت المفاجئة حين تم قبولهم جميعا في المستشفيات التي قصدوها حيث تم تشخيصهم بالفصام (سكيزوفرينيا) أو ثنائي القطب مع وصف أدوية لهم وإرغامهم على تناولها. لم يشكك أي من الأطباء أو الممرضين و لو للحظة في إمكانية أن يكون هؤلاء فعلا مرضى مزيفين والمثير للاهتمام أن بعض المرضى في المصحات تفطنوا إلى أن روزنهان و ساعديه كانوا مرضى مزيفين. تم اعتبار تدوينهم للملاحظات كمرض عقلي كما تم منع المرضى المزيفين من مغادرة المصحات العقلية ووجد البعض أنفسهم محبوسين لقرابة الشهرين في حين أن أقل فترة استشفاء كانت 7 أيام. قام روزنهان بإعادة التجربة عدة مرات ليثبت أن نوع ومكان المصحات لا يغير من حقيقة معاملاتهم اللاإنسانية في حق المريض والتي تصل أحيانا إلى الضرب والإهانة والتجريد من الإنسانية. بعد نشر التجربة الأولى اشتاطت العديد من المصحات غضباً وادّعت أنها لن تقع في هذا الفخ أبدا. وقامت إحدى المستشفيات بتحدي العالِم روزنهان بأن يرسل مرضى مزيفين آخرين ليحاول موظفوها اكتشافهم من بين المرضى الحقيقيين. وافق روزنهان، ومن بين 250 مريض حدد الموظفون 41 مريضاً مزيفاً محتملاً لكن في الواقع، لم يقم روزنهان بإرسال أي أحد وكانت النتيجة تأكيدا آخر على أنه لا يمكن التفرقة بين الإنسان العاقل وغير العاقل في المصحات النفسية.
أهداف الحركة:
– التشكيك في مفهوم المرض النفسي وطبيعته
– محاولة صياغة تعريفات جديدة لمرض الانفصام حيث قام الطبيب النفسي رونالد لاين بوصفه على أنه محاولة المريض إعطاء معنى لوجوده والذي يتطور بسبب القلق والظروف المحيطة به إلى انعدام أمن دائم، وبالتالي خلق شخصيات زائفة لحماية نفسه من أي أذى.
التركيز على إيجاد نظرة مختلفة للأمراض النفسية وإعادة التوازن إلى علاقة الطبيب والمريض بحيث لاحظ المنتمون إلى الحركة القوة التي يتمتع بها الطبيب النفسي الذي يستطيع منع شخص ما من إيقاف العلاج والخروج من المستشفى ووصمه إلى الأبد باسم مريض عقلي حتى وإن تم شفاؤه.
إنجازاتها:
ساهمت الحركة بشكل كبير في مراجعة شاملة للتشخيصات حيث غيرت جمعية الطب النفسي الأمريكية الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية بعد نشر الدراسة كما ساهمت تجربة روزنهان في إصلاح المستشفيات النفسية وبدأت فكرة إطلاق سراح المريض تصبح أكثر قبولًا عند طاقم الطبي بدل احتجازه ضد رغبته. كما تم إقرار حق المريض في أن يكون مختلفاً ورافضاً للبيئة المحيطة به دون أن يتم اعتباره مريضاً عقلياً.
التركيز على الآثار الجانبية للأدوية المستخدمة في علاج مختلف الأمراض النفسية واستبدالها بطرق علاجية أخرى.
يرى كثيرون أن وجود حركة مكافحة علم النفس كانت ضرورية ليطور هذا الأخير من أساليبه العلاجية ويصبح ذا مصداقية فيما يخص التشخيصات.
إعداد: رميساء بغيبغ
تدقيي لغوي: حفصة بوزكري