في مقالنا السّابق تناولنا بالدراسة المفهوم العام للجدوى الاقتصادية وقمنا بإماطة اللثام عن بعض الجوانب الغامضة المحيطة بهذا الموضوع والتي لا تكون مألوفة لدى عامة الناس نتيجة غض النظر عن التطرق إليها بشكل كافٍ ومفصّل من طرف الإعلام. وفي هذا المقال سنتناول بشكل أكثر تفصيلا هذ الجانب في شقّه المتعلق بالصناعة الاستخراجية عموما والصناعة المنجمية على وجه الخصوص.
يوميا، نسمع بوجود ثرواتٍ غير مستغلّة في الجزائر وأنّ هذه الأخيرة تتربّع على كميات هائلة من المواد المعدنية غير المستغلة، إلّا أنّ معظم السياقات التي يتم فيها تناول هذه المواضيع من طرف الإعلام كثيرا ما تكون سياقاتٍ مبالغا فيها ويتم تقديمها بغرض دعائي قد يكون متعمدا أو غير متعمد لكنّه في عمومه يروِّج لفكرة الفشل في الاستغلال الأمثل لهذه المواد المعدنية. في الواقع، إنّ هذه السياقات الإعلامية لا تكون عادة منصِفة لافتقار المحرّرين في أغلب الأحيان للمعرفة العميقة بالمجال التّقني ممّا يجعل هؤلاء يبالغون أحيانا بشكل إيجابي وأحيانا أخرى بشكل سلبي.
فعند الحديث عن المواد المعدنية، لا يعرف الكثيرون أنّ كلّ صخرة على الأرض أصلا تتكون في معظمها من موادَ معدنية متعدّدة وأنّه لا يوجد موطىء قدم على سطح كوكبنا يخلو من المعادن ولكن هذه المعادن على اختلافها تصنف تصنيفا اقتصاديا بحتا قد يكون أحيانا مفهوما وبسيطا فإذا سألنا أيَّ فرد بسيط من عامة الناس عن الذهب لجزم أنّ هذا الأخير مادة معدنية قيّمة.
إلّا أنّ هذا التصنيف أحيانا ما يكون غامضا فلْنذكر على سبيل المثال عنصر الحديد، قد يوجد الحديد في بعض السياقات الجيولوجية كعنصرٍ غالب فيُصنَّف على أنّه مادة معدنية قيّمة كما هو الحال في مناطق وجود مناجم الحديد المعروفة، (الونزة، غار جبيلات) إلّا أنّه في سياقات أخرى قد يُصنَّف على أنّه مادّة طفيلية كما هو الحال عند وروده ضمن مادة الكاولين، إذ يتسبب وجود عروق للحديد في وسط الكاولين إلى الرّفع من تكاليف استغلال ومعالجة هذا الأخير، فيُصنَّف الحديد بذلك كمادة غير مفيدةٍ بل ومعيقةٍ للنشاط الاقتصادي ويتحتّم التخلص منها ويتسبب وجودها في الرفع من سعر التسويق إلى مدى قد يكون استيراد هذه المادة من الخارج أقل تكلفة وأجدى من الناحية الاقتصادية ممّا يتسبب في إعلان هذا الكاولين كراسب معدني غير مفيد.
يُعتمد علميا على التصنيفات الموالية كتصنيفات مرجعية قد تختلف من مؤلِّف إلى آخر في التسمية لكنها تتفق في فحوى التعاريف، حيث نميّز:
المعادن الاقتصادية: هي مجموعة المعادن ذات القيمة الاقتصادية لعموم المجتمع البشري وتشمل مجموعة المعادن والصخور الصناعية ومواد البناء الأوّلية التي تُستخدم في المجالات الصناعية المختلفة.
معادن الخامات: وهي خامات أو مواد أولية أو ترسبات معدنية تحتوي على معدن معيّن أو مجموعة معادن تحتوي ما يمكن استخلاصه منها بالوسائل التقنية المعروفة وبجدوى اقتصادية.
المعادن الغثّة: وهي مواد معدنية مرافقة لمعادن الخامات، تكون غير مرغوب بها ولا يمكن الإستفادة منها وتسمّى المعادن الغثّة (أو العقيمة) والتي تُفصل وتُستبعد خلال عمليات المعالجة والإستخلاص على غرار المثال السابق الذكر بين الحديد والكاولين.
إذا سمعنا ذات يوم عن مؤسسة منجمية مستغِلّة لمادة معدنية نفيسة كالذهب تقوم بإيقاف النشاط والشروع في الإستيراد مثلا أو تُشهر إفلاسها قد نطرح التساؤل التلقائي: لماذا؟ إنّه الذهب. إنّه معدن نفيس ويبلغ الكيلوغرام الواحد منه آلاف الدولارات. وقد يتشدّق بعض أشباه المحلِّلين من غير أصحاب التخصّص على صفحات الجرائد ببعض التحليلات ويبدؤون بكيل التُّهم الماسّة لبعض الجهات لِيردَّ عنهم غيرهم بمثلها ويتفاقم الجدل دون أن يفهم الفرد البسيط شيئا في الموضوع.
إنّ تراكيز المعادن في الطبيعة لا تكون عالية بالمطلق ومن النادر أن يوجد معدن نفيس كالذهب ككتلة واحدة تزن ربع كيلوغرام كما تريه لنا الأفلام. إن كل ذلك ليس سوى تجسيدات هوليودية لبعض القصص القديمة والتي قد تكون بذلك الوصف على صواب إبّان العصور السابقة حيث كان يمكن أن يعثر الفرد على كتل معدنية غنية جدا على عمق بسيط فمن الممكن أن تحصل على كتلة حديدية كافية لو عالجتها بالطَّرق لتصنع منها سيفا بتّارا ذا خصائصَ فيزيائية جدُّ مقبولة بعد معالجة ذلك الحديد بالفحم الحجري، وكان من الممكن العثور على قطع من الماس على درجة عالية من النقاوة على عمق بسيط ودون أن تتطلّب كثيرا من الصقل حتى تتحول إلى ثروة فاحشة للمحظوظ الذي عثر عليها.
هذه القصص وغيرها دوما ما تلقى وجودا ورواجا دائما في المخيّلات الشعبية رغم القدر الكبير من المبالغة التي تعتريها وليس ببعيد شيوع أحد الأخبار عن وجود الذهب بمنطقة إليزي بالجزائر وأنباء عن وفود أعداد هائلة من الناس تقوم بقطفه كما تقطف ثمار البطاطا من الأرض في مشهد كاريكاتوري يذكر بشكل شديد الشبه بحمّى الذهب التي ظهرت خلال القرون الماضية بالولايات المتحدة عقب اكتشاف بعض المغامرين للذهب وشيوع أخبار عن ثرائهم السريع ما دفع بأمواج بشرية ضخمة لترك معاشاتها لتنضمّ إلى جحافل صائدي الذهب، هؤلاء كما شاعت تسميتهم حينذاك.
إنّ الحقيقة غير السارة هي أنّ تركيز معدن نفيس كالذهب عند استخراج مادته الخام من الأرض لا تتجاوز واحدا بالمائة من الكتلة المستخرجة في كثير من الأحيان أي أنّ الطرف المستغِل سيضطر لاستخراج أطنان من التربة وفقط بعد إخضاعها للمعالجة سيتمكن في النهاية من الحصول على بضع غرامات من الذهب، هذا الأمر هو أمر مخيب للآمال لمحبي المغامرات و عُشّاق القصص ولكن ليس لأصحاب المؤسسات حيث سيبقى نشاط هذه الأخيرة مجديا اقتصاديا و يدرّ عليها أرباحا سنوية طائلة بعد خصم التكاليف العملياتية كتكاليف التفجير والتحميل والنقل والوقود والتخزين والمعالجة الأوّلية المعروفة بالتحضير الميكانيكي تليه المعالجة الفيزيائية والفيزيوكيميائية ثم الكيميائية وعمليات الصَّهر و التعدين و أجور العمال و الضرائب المختلفة، دون أن نغفل تكاليف الإستثمار الأوليّة كتكاليف الإعداد المسبق للأرضيات و تكاليف اقتناء الآليات ووحدات المعالجة الصناعية.
إنّ الإقدام على هكذا مخاطرة لا يتم إلّا بعد حساب اقتصادي دقيق للمخاطرة وتقييم للطلب وكذا لبورصة المعدن التي قد يؤدي تذبذبها لفترة قصيرة إلى تكبيد الشركات الناشطة في الصناعات الإستخراجية خسائر بمليارات الدولارات قد تنتهي بإفلاس هذه الأخيرة أو ببيعها إلى حيتان عملاقة أكثر قدرة على الصمود أمام تذبذبات البورصة الحادة ممّا يجعل هذا المجال دوما حِكرا على رؤوس الأموال الكبيرة القادرة على تحمّل ذلك الكمّ من المخاطرة.
مراجع:
جيولوجيا المناجم و الإستكشاف المعدني، غازي عطية زراك جامعة تكريت-العراق الطبعة الأولى 2014
تدقيق لغوي: سهام جريدي