اعتدنا «ترميز» و«نقل» و«تخزين» المعلومات بكميات محددة كالأشياء المادية، فبعض خواص المعلومات قابلة للحساب كميٍّا بصورة بديهية، فأي شبكة اتصالات فائقة السرعة تستطيع نقل حد أقصى من المعلومات في الثانية، وأي جهاز كمبيوتر يحتوي على قرص صلب لا يتضمن إلا قدرًا محدودًا من المعلومات.
وهي أيضا ذات طبيعة غير «سلبية»، مثلا: عندما يسأل «جون» جاره سؤالا، فإنّ أسوء سيناريو هو عدم الحصول على إجابة أو الحصول على إجابة خاطئة، وهو ما يجعل لديه صفرا من المعلومات وليس أقل من ذلك.
– النظرية الرياضية للاتصال:
أسسها «كلود شانون» وهو عالم أمريكي في الرياضيات، وتتعامل النظرية الرياضية للاتصال مع المعلومات بصفتها اتصال بيانات، في ظل هدف رئيس يتمثل في إيجاد طرق فعالة لترميز البيانات ونقلها.
ولنفهم النظرية جيدا نضرب مثال: اليوم هو الإثنين صباحًا، يدير جون مفتاح تشغيل سيارته، ثم لا يحدث شيء، لا يُصدر المحرك أي صوت، الأمر الذي يثير قلق جون، وببعض التدقيق، يلاحظ جون أن مؤشر البطارية المنخفضة يومِض، وبعد مزيد من المحاولات غير الناجحة، يستسلم جون ثم يهاتف ورشة الصيانة، ويخبرهم أنّ البطارية لا تعمل على الإطلاق، يقترح الميكانيكي على جون بالرجوع إلى كتيب إرشادات تشغيل السيارة الذي يبين كيفية استخدام أسلاك تشغيل المحرك، لحسن الحظ، لدى جار جون كل ما يحتاج إليه، يقرأ جون كتيب الإرشادات، وينظر إلى الرسوم التوضيحية، ويتحدث إلى جاره، ويتبع الإرشادات، ويحل المشكلة، وأخيرًا يتوجه إلى عمله.
وحسب النظرية، يعتبر جون هو «الطرف المُبلغ»، والميكانيكي هو «الطرف الذي يتلقى البيانات»، وتشير البطارية الفارغة إلى الرسالة الدلالية «محتوى البلاغ»، وهناك عملية ترميز وفك ترميز من خلال إحدى اللغات (الإنجليزية)، وهناك قناة اتصال (نظام الهاتف)، فضلًا عن بعض الضجيج المحتمل (بيانات غير مرغوب فيها جرى تلقِّيها ولم يجرِ إرسالها)، يشترك الطرف المبلغ مع الطرف الذي يتلقى البيانات في الخلفية المعرفية ذاتها حول جمع الرموز القابلة للاستخدام (الأبجدية في هذا المثال).
– المصدر الأحادي: أو الجهاز الأحادي، هو مصدر يجيب عن جميع الأسئلة بإجابة واحدة، وهذه الإجابة ليست صامتة أو تتضمن رسالة، مثلا: غراب يرد على جميع الأسئلة بعبارة واحدة هي «لا مزيد»، اذن هو يصدر صفر من المعلومات، فهو بذلك يماثل المصدر الصامت، فهو غير «مفيد معلوماتيا»، وبمصطلح «شانون» هي غير «مدهشة».
– الجهاز الثنائي: مثل قذف عملة معدنية ذات وجهين: الصورة والكتابة، هنا الطرف المتلقي يكون في حالة «عجز بياناتي»، او «عدم يقين» في السياق غير الرياضي، فبمجرد قذف العملة يصدر النظام كمية من المعلومات التي تدل على النتائج الممكنة.
المعلومات يمكن حسابها كميا في إطار عجز البيانات، حيث تصدر عملة واحدة معلومة واحدة، وتصدر عملتان وحدتي معلومات، و3 عملات 3 وحدات معلوماتية، وهكذا دواليك.
لكن في الحقيقة العملة المتحيزة (مثلا:عملة تم تعديلها لتظهر أكثر وجه الصورة)، إذ يمكن أن تصدر ما هو أقل بقليل من وحدة معلومات، وأكبر حتما من الصفر.
– التكرار والضجيج:
في الحياة الواقعية، عملية التشفير الناجحة هي تلك التي لا يحدُث فيها التكرار إلا على نحو بسيط، يشير «التكرار» إلى الفرق بين التمثيل المادي لرسالةٍ ما والتمثيل الرياضي للرسالة نفسها الذي لا يستخدم وحدات بيانات غير ضرورية، إذ تعمل إجراءات «الضغط» — مثل تلك الإجراءات المستخدمة في تقليص الحجم الرقمي للصور الفوتوغرافية — من خلال تقليص تكرار البيانات.
«الضجيج»، رغم احتواء رسالة + ضجيج على بيانات أكثر من الرسالة الأصلية، إلا أن الهدف من عملية الاتصال هو «الدقة» -عملية النقل الدقيق للرسالة الأصلية من المُرسِل إلى المُستقبِل-،أي لا زيادة في البيانات.
– بعض التداعيات المفهومية:
بالنسبة إلى النظرية الرياضية للاتصال، تعتبر المعلومات مجرد اختيار لرمز واحد ضمن مجموعة من الرموز الممكنة، ومن هنا نستنتج نقطتين مهمتين:
أولا: تشتمل المعلومات في النظرية على معنًى فني بالكامل، مثلا: بغَضِّ النظر عمَّا إذا كان السؤالان المقابلان للإجابتين، هل تتزوجينني؟ ، هل البطارية فارغة؟ ،تشتمل إجابتا «نعم» المتساويتان في احتمال الحدوث كمية المعلومات نفسها. أو مثلا: إذا حدث وقام القرد بالضغط على أزرار الآلة الكاتبة بصورة عشوائية فإن ذلك سينجم عنه كمٌّ هائل من المعلومات حسب النظرية.
ثانيا: بما أن النظرية الرياضية للاتصال هي نظرية معلومات بلا معنًى (ليس بمعنى أنها عديمة المعنى على الإطلاق بل إن المعنى ما زال لم يصل بعد)، وبما أن (المعلومات − المعنى = بيانات)، فإنّ تعبير «النظرية الرياضية للاتصال» أكثر صحة من تعبير «نظرية المعلومات».
– الإنتروبي والعشوائية:
انتروبي مصطلح يستخدم في النظرية الرياضية للاتصال، وهو مقياس لثلاثة كميات متكافئة:
- متوسط كمية المعلومات لكل رمز يصدر عن الطرف المُبلِّغ.
- أو متوسط الكمية المساوية لعجز البيانات (مفهوم عدم اليقين عند شانون) لدى الطرف المتلقي للبيانات.
- الإحتمالية المعلوماتية المقابلة للمصدر نفسه.
ويعتبر الإنتروبي مقياسًا لكمية « الإختلاط » في العمليات والنُّظم التي تتضمن طاقة أو معلومات،يمكن أيضًا النظر إلى الإنتروبي باعتباره مؤشرًا على الإنعكاسية، إذا لم يكن ثَمَّة تغيير في الإنتروبي، فيعني ذلك أن العملية قابلة لإجرائها عكسيٍّا. فمثلًا تحتوي أي رسالة مقسمة تقسيمًا شديدًا ومنظمة تنظيمًا كاملًا على درجة أقل من الإنتروبي أو العشوائية، وهو ما يعني معلومات أقل وفق معنى شانون في النظرية، ومن ثَمَّ تتسبب في عجز بيانات أقل، وهو ما قد يقترب من الصفر (تذكر الغراب). في المقابل، كلما زادت احتمالية عشوائية الرموز في الأبجدية، زادت وحدات المعلومات التي تصدر عن الجهاز، يبلغ الإنتروبي قيمته القصوى في الحالة المتطرفة للتوزيع المنتظم، وهو ما يعني أن كوبًا من الماء فيه مكعب ثلج يحتوي على إنتروبي أقل من كوب الماء بعد ذوبان المكعب، كما يكون الإنتروبي أقل لعملة متحيزة من عملة عادلة. في الديناميكا الحرارية، كلما زاد الإنتروبي، كانت الطاقة المتوافرة أقل، وهو ما يعني أن الإنتروبي المرتفع يقابله عجز طاقة مرتفع، وهو الأمر نفسه في النظرية الرياضية للاتصال، تقابل القيم الأعلى للإنتروبي الكميات الأعلى من عجز البيانات.
إذن، تضع النظرية الرياضية للاتصال الأساس لمنهج رياضي يتناول اتصال ومعالجة بيانات مصوغة جيدًا، وعندما تصبح هذه البيانات ذات معنًى، فإنها تشكِّل «محتوى دلالي».
المصدر : كتاب المعلومات للبروفيسور والباحث في فلسفة المعلومات «لوتشيانو فلوريدي» – Luciano Floridi
تدقيق لغوي: زين العابدين لطرش