إنّ تغيرات الحياة المستمرة تثير لدى الأفراد مشاعر متباينة، حيث تتغير مشاعرنا وانفعالاتنا بين الحين و الآخر، لأننا نشعر في بعض الأحيان بالحزن وفي أخرى بالفرح وربما بالخوف في لحظة معينة. هذه التغيرات في الانفعالات دفعت الكثير من الباحثين في كثير من الاختصاصات، علم النفس العصبي على وجه الخصوص، للاهتمام بدراستها ومعرفة ماهيتها. وفي هذا الصدد، تحدثَت أهم نظريتين عامتين بخصوص الانفعال ، الأولى تضع الثقل على دور العمليّات المعرفية Cognitive في التوسط في الخبرات الانفعالية، والثانية توجهها بيولوجي أكثر، تفترض أجهزة منفصلة للمعرفة (Cognitive) و الانفعال (Emotion)، وأن هناك تفاعلًا بينهما، إنّ دراسة الانفعالات من منظور علم النّفس العصبيّ ترجح عدد من العَوامل التّي تُعتبر أَساسيّة و منها: هل الانفعالات يسيطر عليها من قبل النّصف الأيمن أو الأيسر من الدّماغ؟ وهل يسيطر عليها من خلال الفصوص الأمامية أم الخلفية للدماغ؟ وكيف تفسر الانفعالات؟ وما هي الأعراض الأساسيّة التي يمكن ملاحظتُها عند حدوث تلف في الدّماغ؟ وكيف تظهر من خلال سلوكيّات وكيف تؤثّر في سمات الشخصيّة للإنسان ؟
إنّ مصطلح انفعال (Emotion) يشير إلى ردود فعل مناسبة لمثير مناسب، وتشمل جانبًا معرفيًا وسلوكيًا وتعبيريًا واستجابة فسيولوجية وخبرة ذاتيّة _مشاعر_ ونشاط موجه، يمكن تمييز الانفعال عن العاطفة أو الوجدان حيث يكون لفترة زمنية قصيرة نسبيًا كما يتميز أيضًا عن المزاج (Mood) حيث يكون المزاج لمدة طويلة ودائمة. أول من ناقش علاقة الانفعالات بالدماغ هو جاكسون (Hughlings Jackson)، حيث لاحظ أن المرضى الذين يعانون من الحبسة (اضطراب لغوي ناتج عن تلف في الدماغ)، وعند فحص بعض جوانب الانفعال عندهم، وجد أن الكلمات الانفعالية يمكن أن لا تتأثر (مثل الكلمات النابية). في عام 1912، لاحظ ميلز (Mills) أنّ وجود خلل أو مرض في النصف الأيمن من الدماغ يؤدي إلى عجز في التعبير عن الانفعال، وقد أيدت نتائج دراسات جونتي (Gainotti ،1972) نتائج ميلز، حيث لاحظ عند المرضى الذين يعانون من تلف في النصف الأيمن من الدماغ لا مبالاة في ردود أفعالهم (نكت غير مناسبة، تجاهل شمق (Euphoria)، وتقليل من الأعراض الناتجة). يشير مصطلح الشمق (Euphoria) إلى المبالغة في الشعور بالنشوة وراحة الجسم و خلوه من الأمراض، و الشعور بالسعادة المفرطة أو المبالغ فيها، و ترجم أيضا بالفورة الانشراحية، أما عند المصابين بتلف في النصف الأيسر من الدماغ فتكون ردود فعلهم اكتئابية و فاجعة (Catastrophic).
أشارت الدراسات إلى ما يسمى عرض كلوفر بيوسي (Kluver_Bucy syndrome)، و ينتج عن استئصال ثنائي للفص الصدغي الأمامي (Anterior temporal syndrome)، وتشمل الأعراض على أنّ القرد أصبح أليفًا ولا يبدي أي نوع من المخاوف حتى من الأفعى، كذلك الاستجابة لكل مثير بصري والتفاعل معه (Hypermetamorphosis) ، وميل لفحص جميع الأشياء عن طريق الفم، كذلك عدم الإدراك البصري (عمه بصري Visual agnosia)، أمّا عند الإنسان فقد ذكر البعض أعراضًا مشابهة عند مريض مصاب بالتهاب الدماغ و السحايا (Meningoencephalitis) .
وعند الحديث عن الدراسات التي أُجريت على الإنسان، نلاحظ أن النصف الأيمن والنصف الأيسر من الدماغ يؤثران وبطريقة متمايزة على السلوك الانفعالي، فيبدو أن التلف بالنصف الأيمن له تأثير أكبر خصوصًا على عملية تفسير الانفعالات. تظهر الدراسات أن النصف الأيسر متضمن أكثر في الانفعالات الايجابية أما النصف الأيمن فله دور في الانفعالات السلبيّة. إن الأذية بالفص الأيمن خاصة الحجاج تقلل من التعابير الوجهية والحديث التلقائي، كما قد تؤدي إلى تغيّرات أُخرى في السلوك الاجتماعي.
وفي المقابل، يؤدي ظهور عدد من السلوكيات أو سمات الشخصية والسلوكيات الاجتماعية عند الأفراد الذين لا يعانون من تلف معروف في الدماغ والمشابهة لخصائص هذه السلوكيات عند الأفراد الذين يعانون من تلف في الدماغ إلى افتراض أنّ الفروق في تنظيم الدماغ (Organization)، سواءً جينيًا أو بتأثير البيئة، يُشكل الأساس للفروق بين الشخصيّات. وإذا عدنا إلى ما سبق من استعراض لبعض تأثيرات التلف في الدّماغ على الانفعالات فإنه يمكن الافتراض أنّ الشخص شديد النقد (Hypercritical) قد يكون له فصًا صدغيًا أصغر أو أقل نشاطًا نسبيًا، نفس العرض بالنسبة للشخص ذو التعبير الوجهي الأقل قد يكون فصه الدماغي الأمامي أصغر أو أقل نشاطًا نسبيًا، و في هذا السياق تشير الدراسات التي أجريت على الأفراد الأسوياء إلى أن النصف الأيمن من الدماغ مسيطر بالنسبة لإدراك الانفعالات سواءً الوجهيّة أو المرتبطة بإيقاعات الكلام.
إنّ علم النفس العصبي الإكلينيكي يوظف نتائج البحوث في الانفعالات في عملية تأهيل المرضى، فعلى سبيل المثال وُجد أن السياق الانفعالي و فهمه يساعد في تعليم المصابين بالحبسة .
من خلال ما سبق، يتضح لنا أن هناك أجهزة متعددة أو أنظمة متعددة في القشرة الدماغية والقشرة الفرعية (Cortical and Subcortical) تساهم في الخبرة الانفعالية، أي أن هناك أجهزة تعالج أو تحلل المثيرات الاجتماعية ذات الدلالة، خاصة التي تتبع كائنًا معينًا وهذا يشمل، على سبيل المثال، المثيرات الشمية، اللمسية، البصرية، والسمعية، وهي عبارة عن أجهزة متداخلة منفصلة، كلها تساهم في فهم وتفسير الانفعالات الصادرة عن الأفراد لذلك فإنّ أي تلف في الدماغ قد يغيّر من بعض السلوكيات والتعبيرات الانفعالية كما ذكر سابقًا.
المصدر:
– محمد عبد الرحمان الشقيرات ، (2005)، مقدمة في علم النفس العصبي ، ط 01 ، دار الشروق للنشر و التوزيع ، عمان_الأردن.