يُعاني كثير من الأطفال من صدماتٍ نفسيّة تُؤثر على حيَاتهم في الحاضر والمستقبل، ولكن للأسف فإنّ كثيرًا من الأَطفال لا يتعالجون من هذه الصدمات التّي يمرون بها نتيجة جهل الأهل أو عدم معرفتهم بما مرّ بأطفالهم، وكذلك عدم الإفصاح من قِبل الأطفال عن أحداث قادت إلى معاناتهم من الصدمات، هذه الأخيرة قد تكون مرتفعة ولكن ليس هناك إحصاءات عن مدى انتشار هذه الصدمات بين الأطفال لأنّ الكثير منهم لا يُخبرون بما مرّ بهم من صدمات نفسيّة، لكن العديد من حوادث الحياة تشكل صدمات نفسية شائعة في الطفولة حيث تدل الأبحاث على أن 14% إلى %43 من الأطفال يمرون بتجربة واحدة على الأقل من الصدمات النفسية في حياتهم.
فما هي الصدمة النفسية؟ وكيف تكون الصدمة النفسية عند الطفل؟
مفهوم الصدمة النفسية:
إن مصطلح الصدمة النفسية مشتق من الكلمة اليونانية “Trauma” والتي تعني جرح محدث من طرف العنف وقد استعمل هذا المصطلح في ميدان الطب و الجراحة.
تعرفه الجمعية الأمريكية للطب العقلي: بأنّه اختلال في التوازن الانفعالي لدى الفرد أو عجز في السيطرة على انفعالاته، وترى أن الصدمة النفسية تحدث عندما يعيش الفرد أو يُشاهد أو يواجه حدثًا يتضمن تهديدًا فعليًا بالموت أو الجروح الخطيرة أو تهديد بفقدان السّلامة الجسدية أو بخطر أحد الأقارب أو الأصدقاء أو بتدمير سكن أو باكتشاف جثّة أو جريح وتكون استجابته بالخوف والرعب والعجز وفقدان التحكم.(1)
الصدمة النفسية عند الطفل:
هي مجموعة أعراض تنتج عن تعرض الطفل إلى حوادث مرعبة ومهددة، تؤدي إلى معاناة الطفل انفعاليًا وتزيد من نسبة التجنب السلوكي لديه، ويتمثل في استعادة خبرة الحدث الصدمي للأنشطة المرتبطة به، فضلاً عن تدني المهارات الإجتماعية والأكاديمية .
إنّ مرحلة الطفولة من أخطر المراحل النمائية في تكوين الشخصيّة الإنسانية ولا يَقتصر خَطرها على أنّها المرحلة التي توضع فيها بذور اضطرابات الشخصيّة المُختلفة، بل إنّها المرحلة التّي توضع فيها أسس الشخصيّة السليمة، بإبعادها ومكوناتها المُختلفة، إذ أنّ ما يكتسبه الفرد في هذه المرحلة من عادات واتجاهات وقيم عبر تنشئته وتربيته، إنما يميل إلى الثبات النسبي ويصعب تغييره فيما بعد.(3)
وهذا ما تثبته العديد من الدراسات، منها التي أجريت بعد الحرب الأخيرة علي غزة إلى أنّ نسب متفاوتة من الأطفال بَدءوا يُعانون من أعراض الخبرة الصادمة كدراسة ثابت والسراج (2008)، ودراسة الزير (2001)، التي توصلت إلى أن نسبة 35% تظهر لديهم الأمراض النفسيّة والاضطراب الناتج عن الصدمة “PTSD” على المدى البعيد، ودراسة ثابت (2009) التي توصلت إلى أن (61%) من أطفال قطاع غزة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة.(2)
دراسة سندي ميلس وآخرون (2008-2005) بعنوان: “فحص التعرض الصدمي واضطراب ما بعد الصدمة وسط الأطفال في الحرب التي شهدتها جمهورية شرق الكنغو الديمقراطية”، هدفت الدراسة إلى فحص الصحة النفسية وسط الأطفال بجمهورية شرق الكنغو، وذلك لما شهدته البلاد من أزمات منذ عام (1996) استخدم الباحثون مقياسي التعرض للأزمات الطارئة، ومقياس تأثير الأحداث توصلت الدراسة إلى أنّه من بين (477) من الإناث و(569) من الذكور (%0.95) خبروا على الأقل حدثًا صدميًا واحدًا، وكان تعرض الأطفال في المتوسط (4.71) حدثًا صدميًا ، وكان معدل التعرض للصدمة عاليًا خصوصًا وسط الذكور سواءً في المناطق الريفية أو الحضرية في المجموعات الأَكبر سنًا ممن فقد أبوه أو أمه، ومن بين (990) من المفحوصين خبر (%2,52) اضطراب ما بعد الصدمة، وترتبط الأعراض بقوة بالتعرض المتكرر للصدمة، غير أنّ قوّة هذا الإرتباط تختلف قليلًا في المناطق السكنية للإناث.(4)
أسباب الصدمة النفسية عند الطفل:
– الأحداث التي تؤثر على نفسيّة الأطفال و تُصيبهم بالصدمة قد تكون شيء مرّ به الطفل نفسه أو تعرّض له شخصياً، مثل أحداث الاغتصاب أو الإصابة العضوية نتيجة حادث كبير عرضّه لإصابات قوية كالحوادث المرورية المروّعة أو اختطاف الطفل من قِبل أشخاص غرباء، تعرّض فيها الطفل للترويع من قِبل الخاطفين وكان هناك تأثير على حياة الطفل أثناء الاختطاف.
– تحدث أيضاً هذه الاضطرابات نتيجة مراقبة الطفل لأحداث كبيرة شاهدها الطفل أو راقبها مثل حدوث جرائم مروّعة بحق أشخاص أمام الطفل، مثل قتل أناس أبرياء أمام الطفل وكان الطفل يُراقب هؤلاء الغرباء يموتون أمامه، أو حضر الطفل حادث مروري مروّع مات فيه أشخاص أمام الطفل.
– الأمر الآخر الذي قد يقود إلى صدمات نفسيّة عند الأطفال، هو سماع الطفل لأحداث مؤلمة وكبيرة وقعت لأشخاص مقرّبين من الطفل كحدوث أحداث لأقارب أو أصدقاء للطفل، فتُحدث لديه ردة فعل عنيفة تقود إلى اضطراب وصدمة نفسية.(6)
معايير تشخيص اضطراب الصدمة النفسية عند الطفل حسب الـ DSM5:
اضطراب الكرب ما بعد الصدمة للأطفال بعمر ست سنوات و الأصغر سنا:
A- التعرض للموت الفعلي أو التهديد بالموت، إصابة خطيرة، أو العنف الجنسي عبر واحد (أو أكثر) من الطرق التالية:
1- التعرض مباشرة للحدث الصادم .
2- المشاهدة الشخصية، للحدث عند حدوثه للآخرين وخصوصا مقدمي الرعاية الأساسيين.
ملاحظة: المشاهدة لا تتضمن الأحداث المشاهدة فقط عبر الوسائط الالكترونية، التلفاز، الأفلام، الصور.
3.المعرفة بوقوع الحدث الصادم للوالدين أو للشخصيات المتقدمة للرعاية.
B- وجود واحد (أو أكثر) من الأعراض المقتحمة التالية المرتبطة بالحدث الصادم، و التي بدأت بعد الحدث الصادم:
1- الذكريات المؤلمة المتطفلة المتكررة، وغير الطوعية، عن الحدث الصادم.
ملاحظة: الذكريات العفوية و الاقتحامية قد لا تبدو مؤلمة وقد يعبر عنها بإعادة التمثيل عند اللّعب.
2- أحلام مؤلمة متكررة حيث يرتبط محتوى الحلم أو الوجدان في الحلم بالحدث الصادم.
ملاحظة: قد لا نتمكن من التأكد أن المحتوى المخيف له علاقة بالحدث الصادم.
3- ردود فعل تفارقية (على سبيل المثال: ومضات الذاكرة)، حيث يشعر الطفل أو يتصرف كما لو كان الحدث الصادم يتكرر، ( قد تحدث ردود الفعل هذه بشكل متواصل، حيث التعبير الأكثر تطرفًا هو فقدان كامل للوعي بالمحيط) قد تحدث إعادة تمثيل محدد للصدمة خلال اللعب .
4- الإحباط النفسي الشديد أو لفتات طويلة عند التعرض لمنبهات داخليّة أو خارجية والتي ترمز أو تشبه جانب من الحدث الصادم.
5- ردود الفعل الفسيولوجيّة عند التعرض لمنبهات داخلية أو خارجية والتي ترمز أو تشبه جانبا من الحدث الصادم.
C- واحد (أو أكثر) من الأعراض التالية، و الذي يمثل إمّا تجنبا للمحرضات المرتبطة بالحدث الصادم، و التي بدأت بعد الحدث، أو ساءت بعده، يجب أن تتواجد:
* تجنب ثابت للمحرض:
1-تجنب أو جهود لتجنب الأنشطة والأماكن أو عوامل التذكير الفيزيائيّة والتي تثير الذاكرة حول الحدث الصادم.
2-تجنب أو جهود لتجنب الناس، و المواقف الشخصية و التي تثير الذاكرة حول الحدث الصادم.
* التعديلات السلبية في المدركات :
3- التواتر المتزايد الكبير للحالة العاطفية السلبية (على سبيل المثال: الخوف والرعب والغضب، والشعور بالذنب، أو العار، التشوش الذهني).
4- تضاءل بشكل ملحوظ للاهتمام أو للمشاركة في الأنشطة الهامة، متضمنًا تقييد اللّعب.
5- سلوك الانسحاب الإجتماعي.
6- الانخفاض المستمر في التعبير عن المشاعر الإيجابية .
D- تغييرات ملحوظة في الاستثارة ورد الفعل المرتبطة بالحدث الصادم، والتي تبدأ أو تتفاقم بعد وقوع الحدث الصادم، كما يتضح من اثنين (أو أكثر) :
1- سلوك متوتر و نوبات الغضب (دون ما يستفز بشكل خفيف) والتي عادة ما يعرف عنها بالاعتداء اللفظي أو الجسدي تجاه الناس أو الأشياء.
2- التيقظ المبالغ فيه (HYPERVIGILANCE).
3- استجابة عند الجفل مبالغ بها.
4- مشاكل التركيز.
5- اضطراب النوم (على سبيل المثال: صعوبة في الدخول في النوم أو البقاء نائما أو النوم المتوتر).
E- مدة الاضطراب أكثر من شهر واحد.
F- يسبب الاضطراب إحباطًا سريريًا هامًا أو ضعفًا في العلاقات مع الوالدين، الأشقاء، الأقران، أو مقدمي الرعاية الآخرين أو السلوك المدرسي.
H- لا يعزى الاضطراب إلى التأثيرات الفسيولوجيّة لمادة (مثل : الأدوية، والكحول) أو حالة طبيّة أخرى.(5)
العلاج:
الطفل الذي يُعاني من صدمات نفسية يحتاج إلى علاج نفسي بشكلٍ أساسي، ويحتاج إلى أشخاص مهنيين ولديهم خبرة في علاج مثل هذه الاضطرابات، حيث أن العلاج النفسي أساسي وضروري جداً لإخراج الطفل من المشاعر النفسية التي يُعاني منها، وبدون العلاج النفسي للطفل الذي يُعاني من الصدمة النفسية، فإن الإضطراب سوف يستمر مع الطفل ويؤثر عليه نفسياً بشكلٍ سلبي ويترتب على ذلك مشاكل في الكبر.
عائلة الطفل الذي تعرّض لصدمةٍ نفسية تحتاج للتقييم ليتم تحديد مدى تأثر الأسرة وعلى وجه التحديد الوالدين والأخوة الذين يعيشون مع الطفل، فقد يكون التأثير أدّى إلى أن بعض أفراد الأسرة قد تأثروا بالصدمة ويحتاجون للعلاج أيضاً، مناقشة حالة الطفل الذي تعرض لصدمةٍ نفسية مع عائلته مهمة جداً لشرح السلوكيات التي قد يعُاني منها الطفل بعد إصابته بالصدمة النفسية، وقد يحتاجون إلى علاج دوائي في بعض الأحيان إذا عانوا من اضطراب الاكتئاب أو اضطرابات القلق.
الصدمات النفسية تؤثر على الطفل، وعلى الأهل و المدرسين والمدرسات في المدارس ملاحظة التغيرات السلوكية عند الأطفال، وعرض الطفل على طبيب متخصص إذا تغيّر في سلوكياته بشكلٍ كبير، فهذا قد يحمي الطفل من اضطرابات نفسيّة قد يُعاني منها في المستقبل.(6)
الاستراتيجيات العلاجية:
يجب أن يتدخل بها اختصاصيون في العلاج النفسي، تقدم لمساعدة الطفل ليواجه واقع ما حدث، ليعيد بناء تصور الذات لديه، ويسوي مشاعر الغضب والحزن والخوف..الخ، ومن أبرز هذه الاستراتيجيات العلاجية:
التدخل النفسي الفردي:
العلاج الفردي هو أحد أنواع العلاج النفسي الذي يتم في جلسات فردية بين المعالج والمريض وجه لوجه، و تتراوح مدة كل جلسة ما بين 45 دقيقة إلى ساعة، ويعتمد تحديد مدة الجلسات وفقاً لطبيعة المشكلة وحسب التوجهات العملية للمعالج وقد يستغرق العلاج الفردي أسابيع أو قد يمتد لشهور أو عدة سنوات حسب درجة شدّة المرض وأهداف الخطة العلاجية الموضوعة.(9)
العلاج الجماعي باللعب:
فاللعب يساعد الطفل في التعبير عن انفعالاته، كما يستخدم اللعب الخيالي كمخرج للقلق والتوتر والكثير من الحاجات والرغبات التي لا يتحقق لها الإشباع في الحياة اليومية للطفل، يمكن أن تلقى إشباعًا في اللعب وبالتالي تقل الاحباطات التي يحذرها الطفل في المواقف المختلفة، إن الطفل أثناء قيامه بنشاط اللعب وتوحده مع أدواره يقوم (بتفريغ) رغباته المكبوتة ونزعاته العدوانية ومخاوفه واتجاهاته السلبيّة وإخراجها من داخله إلى اللعبة.(7)
التدريب الجماعي للتحصين ضد الضغوط :
ويتضمن تدريب التحصين ضد الضغوط تعلم كيفية الاسترخاء، والتقليل من حدة الضغوط عن طريق التنفس العميق وإرخاء العضلات، ولكن هناك ما هو أكثر من مجرد إرخاء جسمك للتغلب على الخوف فينبغي عليك أيضًا أن تتعلم كيف تنشئ مستودعًا خاصًا من أفكار التكيف، تستخدم لإبطال الأفكار التلقائية الخاصة بالأخطار والكوارث التي تنشأ في مواقف الخوف.(10)
التدخل عن طريق المدرسة:
التدخل الأكاديمي من أجل توفير مساعدة نظاميّة مبكرة للأطفال الذين يعانون من صعوبات في التعلم بسبب صدمة، وتسعى الاستجابة للتدخل إلى منع حدوث إخفاق أكاديمي من خلال التدخل المبكر والقياس المستمر للتقدم وزيادة البحث المكثف القائم على التدخلات التعليمية للطلاب الذين لا تزال لديهم صعوبات.(11)
الخلاصة:
ما يمر به الطفل من تجارب ومواقف صادمة في حياته يترك أثرًا عليه في المستقبل، ترافقه عواقبها لفترات قد تكون طويلة، فالصدمات النفسيّة تؤثر على الطفل وعلى الأهل والمدرسين والمدرسات في المدارس، لذا عليهم ملاحظة التغيرات السلوكية عند الأطفال وعرض الطفل على طبيب متخصص إذا تغيّر في سلوكياته بشكلٍ كبير، فهذا قد يحمي الطفل من اضطرابات نفسية قد يُعاني منها في المستقبل.
تدقيق لغوي: لمونس جمانة.
المصادر:
1. ناجي يسمينة ، (2014) ، مساهمة تقنية الـ EMDR في التخفيف من حدة الصدمات النفسية ، مذكرة لنيل شهادة الماستر علم النفس العيادي ، جامعة محمد خيضر -بسكرة .
2.علاء بن العزيمة و عيسى المحتسب،(2014) ، مؤشرات الاضطراب النفسي لدى الأطفال و الراشدين في مناطق التماس جنوب قطاع غزة ، مجلة جامعة الأقصى (سلسلة العلوم الإنسانية) المجلد الثامن عشر ، العدد الثاني ، ص 250-286، يونيو 2014 .
3.فاطمة هاشم قاسم المالكي ، (2010) ، اضطراب ما بعد الضغوط الصدمية و علاقتها بذكاء الأطفال دون سن المدرسة من عمر 4-5 سنوات ، دراسات تربوية ، العدد الثاني عشر ، تشرين الأول .
4.علي الجيلي عثمان عكاشة ، (2010) ، الصدمة النفسية و علاقتها ببعض المتغيرات وسط الأطفال و المراهقين بمعسكري أردمتا و الرياض بمدينة الجنينة ، مذكرة لنيل درجة الماجستير في علم النفس ، السودان .
5.أنور الحمادي ، (2013)، خلاصة الدليل التشخيصي و الإحصائي الخامس للاضطرابات العقلية DSM5 ، الدار العربية للنشر و التوزيع.
6.إبراهيم حسن الخضير، (2011) ، الصدمات النفسية في الصغر لا تنمحي!، مقال في جريدة الرياض الجمعة 13 ربيع الآخر 1432 هـ – 18 مارس 2011م – العدد 15607.
7. د . خضر عباس ، ( 2014) ، اللعب علاج نفسي للطفل ، https://drabbass.wordpress.com
8.د. حمد المسيري ، (2011) ، العلاج النفسي الفردي ، http://www.elmissiry.com/Pages/M002.8.0.0/
9.د. هاني بن محي الدين بن محمد سعيد حبال، (2015) ، التحصين ضد الضغوط ، http://www.abahe.co.uk/
10.الاستجابة للتدخل ، https://ar.wikipedia.org/wiki/