يؤمن الكثير من الشغوفين بالعلم أن الكون لا يقتصر على مقولة « كارل ساغان – Carl Sagan » “البلايين والبلايين من المجرات” فقط، بل يتكون أيضا من كمية هائلة من مادة غير مرئية تدعى المادة المظلمة. ويُعتقد أن ّهذا المركب الغريب هو جزيء دون-ذري لا يتفاعل مع القوة الكهرومغناطيسية، ولا حتى مع القوى الذرية القوية أو الضعيفة. ويعتقد أيضا بأنه من المفروض أن تكون المادة المظلمة منتشرة في الكون أكثر بخمس أضعاف من المادة العادية (المكونة من الذرات التي نعرفها اليوم).
من المقدر بأن الكون يتكوّن من 68% طاقة مظلمة، 27% مادة مظلمة، والـ5% المتبقية هي المادة المرئية أو العادية، أي التي نراها ونتكوّن منها! لقد تم اكتشاف هذا بناءً على مراقبة توسّع الكون، حيث كان لابد من وجود تفسير مقنع لتسارع الكون في توسعّه، وكان الحل الأكثر معقولية هو وجود طاقة مظلمة مسؤولة عن ذلك، فحقيقة أن الكون آخذ بالتوسع بسرعة أكبر عوضا عن التباطؤ بسبب الجاذبية، جعلنا ننظر مرة أخرى حول القوى التي نعرفها حتى اليوم.
ومع ذلك، وإلى اليوم، لم يتم إثبات وجود المادة المظلمة. فهي ما تزال فرضية، وإن كانت مدعومة بقوة. كما أن أيّ نظرية علمية يتوجب عليها أن تبني توقعات معينة، وإذا كانت صحيحة، فلا بد أن تتلائم القياسات التي تقوم بها مع التوقعات، وينطبق هذا تماما على المادة المظلمة.
فعلى سبيل المثال، تمتلك نظريات المادة المظلمة توقعات حول سرعة دوران المجرات. ولكن، إلى الآن، القياسات المفصلة بشأن توزيع المادة المظلمة في مركز المجرات خفيفة الوزن لم تتلائم بعد مع تلك التوقعات.
فطبقا لحسابات جديدة، وبتعبير بسيط، وجد العلماء بأنه كلما كانت المجرات أكبر (وإذن أكثر إشعاعا)، تكون سرعة دورانها أكبر. لقد ساعدت هذه الحسابات في حل لغز علاقة تولي-فيشر، التي تقارن بين المادة المرئية، أو العادية، الموجودة في الكون وبين سرعة دورانها.
ولكن إذا كانت المادة المظلمة موجودة، فإن قياسات “حجم” الكون لن تكون مقتصرة فقط على المادة المرئية، بل ستشمل بالتأكيد المادة المظلمة. إلا أنه مع وجود نقص جزء كبير في المعادلة – كمية المادة المظلمة -، لن تكون علاقة تولي-فيشر صحيحة. ومع ذلك، فهي صحيحة إلى الآن، ومن الصعب جدّا تعديل هذه العلاقة بنظرية تثبت وجود المادة المظلمة.
أصول المادة المظلمة:
تعود فكرة الحاجة إلى وجود مادة مظلمة في الكون إلى عام 1932. حيث قام عالم الفضاء الألماني « جان أورت – Jan Oort » بقياس السرعات المدارية في مجرة درب التبانة، ووجد أنها تتحرك بسرعة كبيرة وكان هذا من الصعب تفسيره بوجود المادة المرئية فقط.
ورغم ذلك، فلم يبدأ البحث عن المادة المظلمة بشكل جدي إلا بعد نصف قرن، وفي أواخر سبعينات القرن العشري، قامت عالمة الفضاء « فيرا روبين – Vera Rubin » وصانع الأداة المستعملة « كينت فورد – Kent Ford » بقياس معدلات الدوران للمجرات القريبة كدالة لبعد نجوم المجرات من المركز، كما قاما بمقارنة القياسات مع التوقعات التي تقررها نظرية نيوتن الأساسية للجاذبية.
تدور النجوم حول مجراتها بمسار شبه دائري، وتعمل قوة الجاذبية على إبقاءها في هذه الوضعية. تتوقع معادلات نيوتن بأن القوة التي تجعل النجوم تدور بمساراتها، يجب عليها أن تساوي قوة الجاذبية على النجم، وإلا لكان سيطير النجم في الفضاء أو كان ليقع في مركز المجرة. وهذا ما تعلمناه في فيزياء الثانوية، أي إن القوة الأولى تساوي الكتلة ضرب التسارع المركزي، بينما الثانية تساوي قانون نيوتن للجاذبية الكونية.
بقرب مركز المجرة، وجد فورد وروبين أن القوة الأولى (التي تجعل النجم يدور حول مجرته) تساوي القوة الثانية (وهي قوة الجاذبية على النجم)، كما كان متوقعا. ولكن بالابتعاد عن مركز المجرات، لم يعد طرف المعادلة متساويين تماما. في حين أن التفاصيل تعددت من مجرة إلى أخرى، بقيت التطلعات إلى المستوى الكوني أين تبقى المعادلة صحيحة.
بالتأكيد، إن تناقضا كهذا يحتاج إلى تفسير ملائم. فبالقرب من مركز المجرات كانت المعادلة صحيحة، بينما في مدارات أبعد عن المركز اختلف الوضع، ما يعني أن هنالك شيء يحدث خارج نطاق النظريات، بحيث أنها عجزت عن تفسيره. فإما أننا لم نفهم المعادلة، أو أننا لم نفهم كيف تعمل الجاذبية أساسا؛ أو كاحتمال ثالث أن إشارة المساواة بين الطرفين خاطئة، بمعنى أن هنالك قوة أخرى أو تأثير آخر لم نأخذه بالحسبان في هذه المعادلة.
شرح التناقضات:
خلال 40 سنة منذ عمل روبين وفورد الأصلي، اختبر العلماء نظريات عديدة من أجل تفسير دوران المجرات والتناقضات لتوقعاتها. وهنا يأتي دور الفيزيائي « مورديهاي ميلجروم – Mordehai Milgrom » ليقوم بالتعديل على المعادلة، وليضع ما سُمي بـ « ديناميكا نيوتن المعدلة – MOND »، التي تفترض في صيغتها الأصلية أن معادلة نيوتن لا تعمل في تسارعات بطيئة جدا ( القوة = الكتلة x التسارع)، بينما اقترح فيزيائيون آخرون تعديلات على قوانين الجاذبية.
وبخصوص نظرية أينشتاين في النسبية، فإنها لا تساعدنا هنا، لأنها تعطي توقعات مشابهة جدا لتوقعات نيوتن بشكل أساسي. كما لا يمكن لنظريات أخرى، كالجاذبية الكمية مثلا، التي تحاول وصف الجاذبية بواسطة جزيئات دون ذرية، أن تفسر هذا لنفس السبب. أي إن التفسير سيكون حصريًّا لنظريات الجاذبية التي تعمل في مستويات كبيرة كمقاييس المجرة أو حتى الأكبر منها.
لذلك سبق لنا أن سمعنا عن توقعات عن وجود قوى جديدة، تحت عنوان “القوة الخامسة”، التي توحي لقوة تتجاوز الجاذبية، الكهرومغناطيسية، والقوتين الذرية الضعيفة والقوية.
والآن، تأتي نظرية المادة المظلمة، وهي نوع من المادة لا يتفاعل مع الضوء، لكنه يُولّد جاذبية، تنتشر في الكون بأسره.
فرغم أننا نملك بيانات وحسابات حول دوران المجرات فقط، فسيكون من الصعب الاختيار من بين هذه النظريات. وفي نهاية المطاف، ربما يمكن أن نستعين بتلك النظريات لنأخذ من كل واحدة ما قد يساعدنا على حل لغز دوران المجرات.
أما الآن، هناك استطلاعات لعدة ظواهر قد تساعدنا على تحديد النظرية الأكثر معقوليّة.
إحدى هذه الاستطلاعات، هي سرعة المجرات الموجودة في مجموعة أكبر من المجرات، حيث تتحرك بسرعة عالية لكي تبقى مجموعة المجرات متماسكة معا. وثانيتها، هي مراقبات الضوء القادم من مجرات بعيدة وقديمة جدا، تظهر أن الضوء القادم منها ينحرف عند اختراقه لحقول الجاذبية لمجموعات مجرات أقرب.
كل هذه القياسات، بالإضافة إلى أخرى لم يتم ذكرها، يجب أن يتم تعريفها تحت نظرية واحدة تفسر سرعات دوران المجرات.
الأسئلة التي لم تجب عنها نظرية المادة المظلمة :
قامت نظرية المادة المظلمة بعمل جيد في توقعاتها للحسابات، ولهذا السبب تعتبر نظرية لها وزنها في المجتمع العلمي. ولكنها لحد الآن ليست مؤكدة بعد.
إذ أن كل الدلائل التي تشير إلى وجودها إلى الآن تعتبر غير مباشرة. فإذا كانت المادة المظلمة موجودة فعلا، فمن المقدر أنه سوف يكون بإمكاننا أن نراقب تفاعلاتها بشكل مباشر عند مرورها بكوكب الأرض، بل وقد يكون بإمكاننا أن نصنع المادة المظلمة في تسارعات كبيرة جدا للجزيئات، مثل « مُصادم هاردون الضخم – The Large Hadron Collider (LHC)». ولكن، رغم المحاولة، فإن كل هذا لم ينجح.
بالإضافة لذلك، على المادة المظلمة أن تتوافق مع كل عمليات الرصد والمراقبة للفضاء، وليس مع معظمها فقط. لذلك وبالرغم من كون نموذج المادة المظلمة الأكثر نجاحا اليوم، إلا أنه ليس ناجحا بالكامل. فمن ثغراته أنه يتوقع وجود مجرات قزمة حول المجرات الكبيرة – مثل مجرة درب التبانة – أكثر مما تم تحديده حتى الآن، ولا يزال عددها صغيرا بالنسبة لهذه التوقعات.
سؤال كبير آخر يُطرح: كيف تؤثر المادة المظلمة على علاقة كمية سطوع المجرات بسرعة دورانها؟ هذه العلاقة، والتي تم عرضها للمرة الأولى في عام 1977، تدعى علاقة تولي-فيشر، وقد أظهرت عدة مرات بأن الكتلة المرئية للمجرة تتعلق تماما بسرعة دورانها.
في الواقع، تعتبر علاقة تولي-فيشر تحديًا صعبًا لنماذج المادة المظلمة، لأن دوران المجرة يتعلق بكمية المادة التي تحتوي عليها. فلو كانت المادة المظلمة موجودة بالفعل، لكانت كمية المادة هي مجموع المادة المرئية وغير المرئية (المظلمة). ولكن نظرية المادة المظلمة الحالية تتوقع بأن أي مجرة عادية قد تحتوي على كمية أكبر أو أصغر من المادة المظلمة. لهذا السبب، فعندما نقيس المادة المرئية، فإننا نكون قد أهملنا كمية هائلة من الكتلة الكلية. ونتيجة لذلك، تصبح المادة المرئية توقعًا ضعيفًا للكتلة الأصلية التي نريد حسابها، وبالتالي للسرعة الأصلية للمجرة. كتلة المجرة قد تكون مساوية لكتلة المادة المرئية أو أكبر بكثير منها.
ومع أن المادة المرئية تعتبر كافية لتحديد كتلة المجرة وسرعة دورانها، إلا أننا لا نملك سببا يفسر لنا ذلك أو يؤكده. ففي ورقة بحث تم نشرها هذه السنة، استعمل المشككون في نظرية المادة المظلمة قياسات علاقة تولي-فيشر لعدة مجرات من أجل دحض النظرية ولتعديل المعادلة.
ومن جهة مقابلة، وفي هذه السنة أيضا، نُشر بحث يدعم نظرية المادة المظلمة في شهر يونيو. بحث لا يعزز التوقعات السابقة لنموذج المادة المظلمة فقط، بل لعلاقة تولي-فيشر أيضا.
وتعتبر ورقة البحث الجديدة نموذجًا شبه تحليلي، أي أنه دمج لمعادلات تحليلية ومحاكاة. حيث تقوم بمحاكاة تكتّل المادة السوداء منذ بدايات الكون والتي تعتبر من مكوناته الرئيسية، وكذا محاكاة تفاعلات المادة العادية (المرئية). وعن طريق ترتيب صحيح للمتغيرات، توصل العلماء إلى تلاؤم مع علاقة تولي-فيشر المتوقعّة. مفتاح هذه الحسابات هو أن سرعة الدوران المتوقعة تشمل قيمة واقعية لنسبة البايرونات (- البايرون هو جزيء دون ذري يحتوي على 3 كواركات – ) للمادة المظلمة في المجرة.
من الواضح أن هذا الحساب الجديد يعتبر خطوة جديدة ومهمة لإثبات نموذج المادة المظلمة، رغم أنه لا يعطي دليلا حاسمًا أو أخيرًا. فلوصف نظريّة ما بالنجاح، لا بد أن تتوافق مع جميع القياسات، حيث يدلّ عدم التوافق على خطأ النظرية أو الحسابات، أو على الأقل على ضعفها. ويبدو أن ورقة البحث الجديدة هذه تعطينا ثقة بحلّ وتفسير بعضا من هذه التناقضات مستقبلا.
وتبقى نظرية المادة المظلمة نظرية تعطي توقعات كبيرة وقوية عن هيكل كوننا هذا. بالتأكيد إنها ليست كاملة ولكنها تحتاج إلى بعض الإثباتات عن طريق اكتشاف جزيء المادة المظلمة الحقيقي.
وإذن، لا يزال لدينا الكثير من العمل لإنجازه حتى نصل إلى هدفنا.
المصادر: هنا – هنا – هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تدقيق لغويّ: Amira Bousdjira
تعديل الصورة: Banan Shanou