العقل البشريّ أكبر ملّكة تميز البشر عن سائر المخلوقات، وأكبر مخزن للفكر، التذكر، التخيل والإبداع. ومع ذلك، فإن هذه الملّكة معرّضة بقوّة لما يعيق وظيفتها، ولما يسبّب لها اختلالات وظيفية اجتماعية. وليقوم العقل بوظيفته، لا بد أن يكون في انتباهه الكامل؛ لذلك فقد حظي مفهوم الانتباه باهتمام كبير عند علماء النفس المعرفي واللّغوي، بل يُعدّ أحد أهم الوظائف المعرفية العليا الأساسية في تطوير وتنمية القدرات العلمية والتعليمية لدى الفرد، وعند البحث عن ماهية هذه الاختلالات وُجدت مسمّيات كثيرة تشترك جميعها في إعاقة التركيز وهي: تشتت الانتباه، الشرود الذهني والسرحان. فكيف يمكن تفسيرها من الناحية النفسية والعلمية؟
أوّلًا: ما هو اضطراب تشتّت الانتباه؟
يُعرّف الانتباه بأنه القدرة على التركيز على المظاهر الدقيقة الموجودة في البيئة، اختيار الكائن الحي لمثيرات معينة ومقاومة التحول الناتج عن المثيرات الأخرى، ويقسم « جانيه – Jannie » الانتباه إلى ثلاثة أنواع:
1- انتباهٌ حسي: وهو ذلك الانتباه الذي يتوقف على استخدام الحواس الموجودة داخل الجسم.
2- انتباهٌ عقلي: وهو الانتباه الذي يتصل بالعمليات العقلية كالتذكر و الإدراك .
3- انتباهٌ نفسي: وهو ذلك الانتباه الذي يتصل بالحالة النفسية للفرد (الاستبصار بالذات).
وبالعودة إلى التعريفات اللغوية، تتوضّح لنا الصورة أكثر:
- تشتت الانتباه أو الذهن: تشتّت انتباهه: انشغل بموضوعاتٍ شتَّى؛ ففقد تركيزَه على موضوعٍ واحد.
- شرود الذهن: عدم الانتباه إلى الظروف المحيطة أو الملابسات الطارئة .
- السرحان: هو شرود الذهن.
أي أن مصطلح « تشتت الإنتباه » هو مصطلح يشمل كل من شرود الذهن والسرحان، كما تشير كلمة « تشتت » إلى عجز الفرد على وضع طاقته الذهنية وتركيزه في أمر ما أو موضوع معيّن، فيقال أنه مشتت الذهن وفي الغالب تشتت الانتباه يشير إلى أن دماغ الفرد يقوم بالتفكير بأكثر من موضوع في آن واحد فتذهب به الأفكار ويغيب وعيه الحسي لفترات مؤقتة فلا يركز بما يقال أمامه أو ما يحدث. ويعرف أيضا باضطراب التشتت الذهني ( فقد التركيز ) حيث تؤثر بشكل رئيسي على سلوك الفرد وقد يصاحبها مشاكل في النمو العقلي والإجتماعي والنفسي . إذن يمكن لنا أن نفسر اضطراب قصور أو تشتت الانتباه على أنه ” فشل الفرد في إنهاء المهمات والصعوبة في التركيز.”
ثَانيًّا: أعراض تشتّت الانتباه وآلية تشخيصه
اعتمادا على الدليل التشخيصي DSM4 المعدل، يتم التشخيص والتأكد من وجود الاضطراب بعد ظهور أكثر من 6 أعراض مما يلي، ولمدة لا تقل عن 6 أشهر، وإلى درجة صعوبة التكيف مع الحالة:
- « ضعف الانتباه – Attention Deficit » المركز للتفاصيل وظهور أخطاء ومشكلات كثيرة في الأعمال المدرسية ( الواجبات الأنشطة وغيرها ) أو غير ذلك من النشاطات التي يمارسها.
- صعوبة الاحتفاظ بالانتباه لمدة طويلة في المهام و أنشطة اللعب .
- صعوبة الإنصات، لذلك يبدو المشخَّص كأنه لا يستمع إلى لحديث الموجه إليه.
- العزوف عن إتباع التعليمات الخاصة بالمهام الموكلة إليه، وبالتالي يفشل المريض في إنهاء المهام والأعمال المدرسية أو الواجبات داخل بيئة العمل، ومن الخطأ أن يُظنّ أن أسباب الفشل تعود إلى السلوك غير السوي أو القصور عن فهم التعليمات.
- صعوبة تنظيم المهام والأنشطة .
- تجنت المشاركة في المهام التي تتطلب جهدا عقليا متواصلا، وإبداء الكره والامتعاض والتردد إذا ما اضطر إليها، كالعمل المدرسي أو الواجبات الدراسية في المنزل.
- فقدان ونسيان الأدوات اللازمة لإتمام المهام المدرسية كالأقلام والكتب.
- تشتت الانتباه بسبب جميع المؤثرات: القوية والضعيفة.
- نسيان الأنشطة اليومية التي اعتاد على أدائها بشكل متكرر.
ثالثًا: عوامل تشتيت الانتباه
1- العوامل النفسية
يرجع اضطراب تشتّت الانتباه إلى عوامل نفسية كعدم ميل الفرد لموضوع ما، أو لأنه يشكو من مشاعر أليمة كنقص أو ذنب أو قلق و اضطهاد حول الموضوع؛ لذلك يجب التمييز بين الشرود الذهني الاضطراري والشرود الذهني كعَرَضٍ لاضطراب نفسي .
2- العوامل الجسدية
قد يرجع شرود الذهن إلى التعب والإرهاق الجسمي وعدم النوم بقدر كاف أو عدم الانتظام في تناول وجبات الطعام، إضافة إلى سوء التغذية أو اضطراب إفرازات الغدد الصماء.
3- العوامل العقلية
تتمثل العوامل العقلية في صعوبة الموضوع، نقص الاستعداد وعدم إتقان المتطلبات الأساسية للموضوع المطروح أو المهمة المستهدفة، أو غموض الأفكار وتشابكها .
4- العوامل الاجتماعية
كما قد يرجع شرود الانتباه إلى عوامل اجتماعية كالمشكلات غير المحسوسة، أو النزاعات المستمرة بين الوالدين والمتاعب العائلية، أو إلى صعوبات يجدها الفرد في علاقاته الاجتماعية أو المالية.
5- عوامل مرتبطة بالإفراط في استخدام التكنولوجيا الحديثة
يمثل الإفراط في استخدام التكنولوجيا الحديثة أحد أهم العوامل ذات التأثير في تشتت ونقص القدرة على الانتباه، حيث سعت دراسة « كريستين ديهملير – Christine Dehamler » في عام 2009، إلى دراسة تأثير استخدام التكنولوجيا الحديثة (الانترنت والتلفاز والهواتف المحمولة) خلال الفترات المخصصة للنوم على جودة النوم وصعوبات الانتباه والأداء الأكاديمي، وتوصلت الدراسة إلى أن استخدام التقنيات الحديثة ليلًا إنما يؤثر تأثير سلبا على جودة النوم، كما أنه يعد أحد العوامل الهامة ذات التأثير في صعوبات الانتباه مما ينعكس سلبا على الأداء الأكاديمي.
أخيرًا؛ كيف تستعيد قدرتك الذاتية على التركيز؟
هاهُنا بعض الأفكار والخطوات التي ستساعدك في استبعاد الشرود الذهني:
1- حاول استبعاد كل ما يشتت فكرك ويشغل ذهنك من الواقع المادي المحيط بك مما ورد ذكره في الأسباب قبل قليل.
2- عوِّد نفسك على أن تعيش لحظتك، وأن تحصر نفسك فيما أنت فيه فقط، انسَ أو تناسَ كل ما عداه.
3- إذا كنت تشعر بالإجهاد فتوقف عن العمل بعض الوقت، وخذ لحظات من الاسترخاء في مكان جيد التهوية، وحبذا لو استلقيت على ظهرك وأغمضت عينيك وأوقفت تفكيرك وأخذت نفسًا عميقًا عدة مرات ثم عد لعملك بعد ذلك.
4- إذا كنت تشعر بالخمول فجدد التهوية في موقعك وتحرك قليلاً من مكانك ومارس بعض التمارين الرياضية الخفيفة لبضع دقائق.
5- أعط نفسك قدرًا كافيًا من الراحة قبل بدء التفكير وممارسة العمل.
6- لا تبدأ التفكير في المسائل المهمة بعد تناول الطعام مباشرة، ولا أثناء الجوع الشديد والظمأ المفرط.
7- بادر لعلاج ما تعاني منه من مشكلات صحية، وإذا كنت تعاني من شيء منها فلا تبالغ في أمره ولا تعطيه من تفكيرك أكبر من حجمه.
8- مارس تمارين تقوية التركيز الذهني.
بعد كلّ هذا، إذا كان الاضطراب لا يزال مؤثرًا على حياتك النفسية والاجتماعية وحتى الأكاديمية، فلابد من استشارة أخصائي نفسي، واحذر من إغفال العلاج الطبي في الحالات التي يكون الخلل فيها متعلقا بكيمياء الدماغ.
المصادر
1- قاموس المعاني الالكتروني، المعجم الوسيط: http://www.almaany.com/
2- محمود فتوح محمد سعدات ، اضطراب نقص الانتباه المصحوب بفرط النشاط، صعوبات التعلم النمائية، أستاذ مشارك – جامعة عین شمس .
3- نايف بن عابد الزارع (2007)، اضطراب ضعف الانتباه و النشاط الزائد، دليل علمي للآباء والمختصين، (ط1) دار الفكر، عمان، الأردن .
4- ترجمة الدكتور تيسير حسون،(2004)، “المرجع السريع إلى الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع المعدل للاضطرابات النفسية”، جمعية الطب النفسي الأمريكية، دمشق، سوريا .