يعد مفهوم حالة التدفق من المفاهيم السيكولوجية ذات المضامين الإيجابية، المرتبط بعلم النفس الإيجابي الذي أدخل رسميا في المسار الأكاديمي لعلم النفس سنة 1998 على يد « مارتين سيلجمان – Martin Selgman »، وتعود بداياته إلى سنة 1975 على يد العالم « Mihali Csikszentimihalyi »
قد يفضي تقديم هذه المضامين الإيجابية وتحليلها، إضافة إلى تبين أبعادها وطرق رصدها وقياسها في البيئة العربية، إلى تنشيط الاهتمام البحثي بالقضايا ذات العلاقة بحركة علم النفس الإيجابي لتأسيس وإقرار ما يصح تسميته بالتمكين السلوكي للشخصية العربية وذلك بالتركيز على الجوانب الإيجابية الخاصة بخبرة حالة التدفق التي تقتضي كما سيأتي بيانه معانقة الحياة وتقبل مصاعبها واعتبارها تحديات جديرة بأن تستنهض همة المواجهة واغتنامها كفرص أصيلة للتعلم ولتجويد الأداء الإنساني ليرتقي في مسار: التميز، الإتقان، ثم الإحسان.
« التدفق الذهني – Flow state » هو حالة من التوحد يعيشها الإنسان بعد تخطيه لمراحل مختلفة فتصل به إلى نقطة ينعزل بها عن كل ما حوله، سواء كان ماديًا أو معنويًا، فيتجرد من أفكاره وفشله في الماضي وأيضًا نجاحه في المستقبل وأهدافه، ويتجرد أيضا من معرفته بالزمن، ليعيش في حالة توحد تام مع ما يقوم به، عمله أو رياضته أو فنه.
و هي تمثل « الخبرة الإنسانية المثلى – Optimal Human Exprience » المتجسدة لأعلى تجليات الصحة النفسية الايجابية وجودة الحياة بصفة عامة .
قبل الوصول إلى هذه الحالة يمر الإنسان أو العقل البشري بعدة مراحل نذكرها باختصار:
1- « المعاناة – The Struggle » :
وهي الحالة التي يكون فيها الشخص فاقد لقدرته على الاستيعاب ويتكون لديه رهاب من كمية المعلومات التي يتوجب عليه تخزينها أو الأعمال التي يجب أن يقوم بها فيبدأ بمطالعتها دون أن يجني أي فائدة، أو يستنفذ طاقته في التفكير فيما سيقوم به والطريقة التي سيتبعها، فيشعر بالإعياء والفشل.
2- « الاسترخاء – Relaxation » :
في هذه المرحلة يقوم الإنسان بأي نشاط خارجي، كالاستماع إلى الموسيقى أو ممارسة نوع من أنواع الرياضة القادرة على تحسين المزاج، فينتقل عقل الإنسان من مرحلة المعاناة إلى حالة الاسترخاء التام.
3- « التفكيك – Fragmentation »:
بعد ملاحظة التغيرات التي تحدث لعقل الإنسان نتيجة للاسترخاء بعد المعاناة، يعود من جديد لإنهاء عمله، ولكن هذه المرة بطريقة مختلفة لا تستنفذ قدر كبير من الطاقة، فيكون في هذه المرحلة قد أدرك حجم العمل الذي هو مقبل على القيام به ومدرك لمواطن صعوبته وسهولته، فيبدأ بتفكيكه وتجزئته ليقوم به على مراحل.
4- « مرحلة التدفق الذهني – Flow state »:
في هذه المرحلة ينعزل الإنسان عن كل ما حوله لينفرد بعمله الذي يقوم به متجردًا من كل ما هو محيط، يعيش في حالة من التوحد تكون فيها المعاناة مصدر سعادة ودافع للاستمرار لا مصدر إحباط، وتتضمن حالة التدفق مشاعر إيجابية كالسعادة والرغبة في القيام بالشيء وسهولة ما قد تم استصعابه في مرحلة المعاناة.
يشترط في حالة التدفق أن يكون العمل الذي يقوم به الإنسان هو عمل يحبه إلا أنه يواجه بعض الصعوبات أو الضغط نتيجة التراكمات، أمّا الإقدام على عمل غير محبب لدى الإنسان نفسه، فلا يمكن أن يسير وفق هذه المراحل، بل وقد يعود إلى مرحلة المعاناة حتى بعد الانتهاء من مرحلة الاسترخاء.
وترتبط حالة التدفق الذهني في علم النفس بحالة « التعلم المثلى – Optimal learning » لأن الإنسان في كلتا الحالتين يكون أمام فرصة للتعلم ولتحسين الأداء الإنساني فيرتقي في مسار التميز ثم الإتقان ثم الإحسان.
وهذا ما يحدث غالبًا للرياضيين والفنانين وأيضًا العلماء عند إنجاز عمل ما، يمرون بكل هذه المراحل ابتداء بالمعاناة وصولًا إلى حالة التدفق التي ينتج عنها عمل إنساني إبداعي فريد.
فحالة التدفق تمثل العامل الحاسم في تكوين المعنى والهدف من الحياة وإضفاء المغزى والقيمة عليها وبالتالي دفع من يتعايش معها إلى الإبداع في أعلى تجليات الإبداع الإنساني .
المصادر :
1- محمد السعيد أبو حلاوة، حالة التدفق: المفهوم، الأبعاد والقياس، إصدارات شبكة العلوم النفسية العربية، جويلية 2013، العدد 29 .
2- محمد السعيد أبو حلاوة، حالة التدفق: المفهوم، الأبعاد و القياس، من موقع: الشبكة العربية للصحة النفسية الاجتماعية.