من أكبَر غَلطَةٍ في حياة أينشتاين، إلى الطَّاقة الأَعظم التي تَحكُم الكَون، إنَّه الثَّابت الكَوني. فماهو هذا الثَّابت؟ كيف بدأت قصته؟ وما عَلاقَتُه بالطَّاقَة المُظلِمَة التي تُسيطِرُ على الكون؟ وسَنَتطرَّق إلى هذا وأَكثَر في مَقَالِنَا الحَالي.
أولاً، نظريَّة النِّسبية العامَّة
سنَة 1905، كانَت السَّنة المُعجزة للفيزيائي الأَشهر على الإطلاق ألبرت آينشتاين، عندَما نَشر أَربعَ أوراقٍ بحثية كان لها التأثير العَميق في فَهمِنا للقوانين الفيزيائية اليوم. اثنَتان من تِلكَ الأوراق كانت حول النَّظرية النِّسبية، وهي النَّظرية التي تَصفُ نسيجَ الزَّمكان (الزمان+المكان)، وهو النَّسيج رُباعي الأبعاد الذي نَعيش فيه. هذه النظرية تَصِف بشكلٍ دقيقٍ غيرِ مسبوقٍ قوانينَ الحَركَة للأجسام التي تَتحرَّك بسرعةٍ قريبةٍ من سرعةِ الضَّوء. لكن أَلبرت لاحَظ سريعًا أن هذه النَّظرية محدودَة، ذلك لأنها لا تَتَوافَق مع جَميع قِوى الطَّبيعة، أو بالذَّات قوة الجاذبيَّة. لهذا السَّبب تُسمى نَظرية النِّسبية الخَاصَّة (Special Relativity).
في سَنة 1915، نَشَر أينشتاين نظرية النِّسبية العامَّة (General Relativity)، والتي تعتبر، إلى جانب ميكانيكا الكم، أعظم نظريتين في فيزياء القرن العشرين. إنها النَّظرية التي تضُم في ثناياها النِّسبية الخاصَّة بالاضافة إلى قوة الجَاذبية. لكن هذه النَّظرية كانت تَعتمِدُ تفسيرًا جَديدا كليًا لظاهِرَة الجَاذبية، حيث أنها لا تُعالِجها كقُوة كسائِر القِوى في الطَّبيعة (الكهرومغناطسية، النووية القوية و النووية الضعيفة)، بل كإِنحِناء في نسيج الزمان-كان (Spacetime). أينشتاين لخص تحفته هذه في السطر الآتي:
في هذِهِ المُعادَلة العَظيمة، الجُزء الأيسر يعبر عن الانحناء في هندسة “الزمكان”، أي قوة الجاذبية، أما الجُزء الأيمن فيجسِّد جَميع أشكال الطَّاقَة التي تتسبب في ذلك الاِنحناء.
الكَون المُستقِر والثَّابِت الكَوني
كان على مُعادلات النِّسبية العامَّة لأينشتاين أن تَتوافق مع حقيقة أن الكَّون مُستقِر وغير ديناميكي، وهي النَّظرَة التي كانَت سائِدة في تِلك الحِقبة. لنتخيل مَثَلا كونًا لا مُتناهيًا في الحَجم، مليئًا بجَميع أشكال المادَّة والطاقَة، في هذِه الحالة النُّقطَة التي ستَحتوي مادَّة أكثر ممَّا حَولها سوفَ تُشكِّل إنحناءً يجذبُ أيَّ مادةٍ من حَولِها، وتَستَمر العملية إلى أن تُصبح هذه النُّقطَة ذات جاذبيَّة عَظيمةٍ جدًا، وهذا سيُؤدي في النِّهاية حتمًا إلى اِنهيار كل الكَّون واِنسِحَاقِه في هذه النُّقطة، وهو ما يُطلَقُ عليه الإنسِحاق العَظيم (Big Crunch).
هل سَيكون الحل هو أن نَفترِض أنَّ المادَّة موزَّعة بشكلٍ متساوي في جَميع أنحاءِ الكَون؟ في الحقيقة سيكون لدينَا في النِّهاية كونٌ غير مُستقرٍ، فأيُّ اِختلالٍ طَفيفٍ جدًا في توزيع المَّادة في نقطةٍ مَا، سيؤدي حتمًا إلى نَفس السِّيناريو.
تَنبَّه أينشتاين إلى هذه الحَقيقة سنة 1917، فأعلنَ عن إدخال ثابِتٍ في مُعادَلاتِه هو الثَّابِت الكَوني (Cosmological Constant)، حيثُ اِختار له كرمز الحَرف اليُوناني “لامدا” (lambda :λ ) لتُصبِحَ:
دورُ الثَّابِت “لامدا” في مُعادَلات النِّسبية العامَّة بسيطٌ جدًا: إنَّهُ بمثابَة قوة تَعملُ عكسَ قوةِ الجَاذبية، وهذا كان كفيلاً بجعلِ الكَون الذي تَتَنبَّأ بهِ المُعادَلات كونًا مُستقرًّا، تمامًا كما كان عليهِ الحَال في الحَقيقة، أو هَكَذا كان الإعتِقاد السَّائِد.
اِكتشاف توسُّع الكَون |غلطَة أينشتاين الكُبرى!
قام في سنة 1929 عالِم الفَلك الأمريكي إدوين هابل (Edwin Hubble) بكشفٍ عِلمي غيرِ مسبوق، عِندَما لاحَظَ أن كل المجرَّات حولنَا تَبتعِد. هذا كان يعني شيئًا واحدًا: الكون يتوسَّع! شَكَّل هذا الاِكتشاف حَجَر الأساس لنظريَّة الإنفجار العظيم (The Big Bang Theory) التي تَبلوَرت أكثر فيما بعد، وأصبحت حقيقةً علمية لا نِقاشَ فيها. وهذا ما جَعَل أينشتاين يُعيدُ النَّظر في التَّعديل الذي أدخلَه على مُعادَلات النِّسبية العامَّة، أي الثَّابت الكوني “لامدا”.
بالرغم من أن الكون يَتوسَّع، إلاَّ أن قُوةَ الجَذب بين كل تِلك المجرَّات والعناقيد كانت في نَظر العُلماء ستعملُ كقوةِ كبحٍ لهذا التَّوسع. بعبارَةٍ أُخرى كان من الواضِح بالنِّسبة للفِيزيائيين حينئذٍ أنَّ الكَون كان يَشهدُ توسُعًا مُتباطِئًا.
يُقال أنَّ أينشتاين وَصَف إدخالَ الثَّابِت الكوني على مُعادَلاتِه بأنَّه كان أكبَر غَلطَة في حياتِه، لهذا اِتَّخَذ الفيزيائيون قيمةً معدومةً لهذا الثَّابِت في مُعادلات النِّسبية العامَّة، وذَلك من سَنة 1929 إلى غَايَة التسعينيات من القَرن المَاضي. فماذا حَدَث بعدَها؟
أينشتاين على حَق، حتى عندَما يُخطِئ!
في نِهاية القَرن الماضي، وتَحديدًا سنة 1998، حَدَث اِكتشاف حَاسِم أَلهَب المُجتَمع العِلمي مِن جديد. فَريقان بحثيَّان، وبشكلٍ مُنفصِل، يَكتشِفُون ما لم يَكن في الحُسبان أبدًا: توسُّع الكَون يَتَسارَع! بالفِعل، فقد كان مُخالِفًا لمُعظَم التَّوقعات.
في نَظَر الفيزياء كان هذا يَعني وجودَ قوةٍ غَريبةٍ تَعملُ عَكسَ قوةِ الجَاذبية، بل هي أَقوى حتى من قوةِ الجَاذبيَّة، حيثُ أنَّها تَجعلُ أطراف الكَون تَتَباعد بشكلٍ مُتسَارِعٍ،
تبقى هذه القوة غَريبةً وبالكَادِ نعرفُ عنها شيئًا، حيثُ أنها ليسَت أيًا من القِوى الأربعَة المَعروفَة في الطَّبيعة، أي قُوة الجَاذبيَّة، القُوة الكَهرومغناطيسيَّة، القُوة النَّووية القوية والضَّعيفَة. كل هذَا الغُموض الذي يَكتنِفُ الطَّاقة وَراء هذه القوَّة الغَريبَة، دَفَع العُلمَاء إلى تَسميتِها بالطَّاقة المُظلِمَة (Dark Energy).
ومن النَّاحية النظرية، كان التَّفسير الأَبسَط لهذا يعني شيئًا واحدًا، إنَّه الثَّابت الكَوني “لامدا”. في النَّموذَج القياسِي للكوسمولُوجيا، وهو أَفضَل فَهمٍ لنَا للكَون، حيثُ يظنُّ الفِيزيائِيون أنَّ الثَّابت الكَوني هو الذي يَلعَب دورَ القوَّة المُضادَّة للجَاذبيَّة، والتي تَملأُ جَميع أرجاءِ الكَون. بعبارَة أُخرى، نَحنُ لا نَحتاجُ الثَّابِت الكَوني لجعلِ الكونِ مستقِرًا وثابتًا، ولكن نَحتاجُه لجعلِ الكَونِ يتوسَّع وبشكلٍ مُتسَارِع.
اليَوم، أثبَتَت المُلاحظات الفَلكية أن الطَّاقة المُظلِمة تُشكِّل حَوالي 70% من الطَّاقة في هذا الكَون، بينَما تُمثل المَّادة المُظلِمة حوالي 25%. أمَّا كل ما يُمكنك رُؤيته في السَّماء، وبأيَّة أداةٍ مَهما كانت مُتطوِّرة، فهو لا يُمثِّل إلا جزءًا من 5%.
هذه النِّسبة الكَبيرة، والغُموض الذي يَكتنفُها يَجعلُ من الطَّاقة المُظلمة مادَّة دَسمة، ليس للأبحاث الفيزيائيَّة فَحَسب، بل حتى في مَجال العَقائِد والفَلسفَة. أما أينشتاين، فيبدو أنه ليس مثيرا للاِهتِمام عندما يُصيبُ فَحسب، بل إنَّهُ كذلك حتَّى حين يُخطِئ.
تدقيق لغوي: أنس شيخ.
تصميم: رامي نزلي.