دَعَت عُصبة الأُمم في سنة 1932 والمَعهد الدولي للتعاون الفكري في باريس، العَالِم الفزيائي الشهير “ألبرت أينشتاين”، أن يقوم بإدارة نِقاشٍ حول أي قضية يختارها، والشخص المُناسب ليُدير الحِوار معه، للوصول إلى حلول بخصوص المشكلة المختارة وأساليب حلها، فاِختار “أينشتاين” مُشكلَةَ الحَرب التي كانت تُؤَرِّقهُ، كَونَ الحَرب قَادرة على أن تُدمر الإِنسانية، وأمَّا عن الشخص المُناسب، فقد اِختار العَالِمَ النَّفساني “سيغموند فرويد”، وهو الذي لم يكن مُتوقعاً، فكيف لعالْمِ طَبيعي أن يَختار عَالمًا إنسانيًا، فما العلاقة التي جمعت بين العالِمَين [1]
بين الخَيال الواسع الذي أَبحر “أينشتاين” به في غَياهب الكَون الفَسيح، وذاك الغَوصُ العَميق داخل الذات البشرية الذي أبدَعَ “فرويد” في فهمه وخصوصاً في كتابه تفسير الأحلام، وُلِدَ الإِبداع والجُرأة مع قليل من الجنون، أو العبقرية، فقد كان وَليدَيْ عَصرٍ عُرِفَ بالنَمطيَّة الفِكرية، إلاَّ أنَّ النَّظرية النِّسبية لـ “أينشتاين” هزَّت الجَانب العِلمي الفَلكي والفِيزيائي، ونظرية فرويد في الجهاز النفسي، غَيَّرت إلى حدٍ ما النظرة إلى النفس البشرية، حتى أن أغلبَ مَدارس علم النفس المعاصر هي وَليدَة لتلك الأفكار، فحتى لو رفضوا أفكارَ “فرويد”، إلا أنه لا يمكن أن لا يُكتَبَ اِسمه حينما نتحدث عن التحليل النفسي.
يَقول فرويد في إحد كتبه: (بعد أربعين عامًا من النَّشاط الطبي، يَتضح لي أنني لم أعمل في يوم من الأيام كطبيب، وفي تقديري أنه على الأطباء الذين يَرغبون في العَمل كمُحَللين نفسانيين، أن يتغلبوا في أنفسهم على الجانب الذي أكدته فيهم الدراسات الطبية، وأن يُقاوموا مُيولاتهم نحو الاِعتماد على علوم الغدد والأعصاب)[2]، حيث أن “إريك فروم” في كِتابِه “مَهمَّة فرويد” يرى أن “فرويد” أراد أن يُغير العَالم تحت قناع المُعالج والأستاذ .
بالمُقابل كان “أينشتاين” يَمتاز بسِعَةِ الخَيال، حيث لم يَبرَح “أينشتاين” من تَمجيد الفَرد، فالفردُ في نَظرِهِ هو الذي يَصنعُ التاريخ، وقد كَتَب يقول:
(إنَّ ما يُعَوَّلُ عليه حقًا ليس الأمة، بل الفردية الخَلاَّقة الحَسَّاسة، بل الشخصية، وما يُحقق الأمر النبيل الرفيع، بينما سائر القطيع لهم أحلامُ العَصافير، ولا حاسة فيهم … إن جَميع الخَيرات المادية والعقلية والأخلاقية التي تَلقيناها في المُجتمع على مرِّ العُصور، كان مصدرها الأفراد الخَلاَّقون، فالفرد من اِستنبط النَّار دُفعةً واحدة، والفرد هو من اِكتشَفَ زِراعة النباتات، والفرد هو من صَنعَ الآلة البُخارية).[3]
وعِندما سُئل “أينشتاين” في لقاءٍ صُحفي عمَّا إذا كان ينظر لِنفسِه باِعتباره ألمانيًا أم يهوديًا، ردَّ قائلاً: (من الممكن أن أكون كِليهِمَا، فالقَومية مرضٌ صِبياني، وهي حَصبةُ الجِنس البشري). [4]
إنَّ قيمةَ الإنسان في التاريخ، تكون بقيمة تأثيره في العالم بعده، وهو ما كان من خِلالِ فكرِ كِليهِما، حيث تتجلى الإنسانية في فكر “ألبرت”، وحُبَّ المعرفة الفضولية في فكر “فرويد”، ويَذكُر تِلميذُهُ “جونز” أنه كان يتَحسَّر على ذلك اليوم الذي يُقلع فيه عن مُمارسة الطِّب لكي يَتفرغ لدراسة مَسائل الحضَارة والتاريخ، وليدرُسَ في نهاية المَطاف، كيف وصل الإنسان إلى ما هو عليه، إذ يقول:
(شعرتُ منذ صِباي، أنني بحاجة لا تُقاوم لفَهمِ أسرار العالَم الذي نَعيش فيه، وحتى بالحَاجة للمُسَاهمة في حلِّها) .[5]
كذلك لم تَمنَع عِلمية “أينشتاين” من تقديم قَواعد َتربوية للجيل النَّاشئ إذ يقول:
(لا يَكفي أن يتعلم المَرء مهنةً يَتخصص فيها، إنه قد يغدو خِلالها نوعًا من الآلة المُفيدة، لا شخصيةً متكاملةَ النمو.
من المُهم جدًا أن يحصلَ الطَّالب على فهمٍ للقِيم، وشُعورٍ حيٍ بها، ولابُد له أن يُحقق إدراكًا حيًا للجَمال والسُّمو الأَخلاقي، وإلا فإنه بعمله المُتخصص سوف يبدو أقرب إلى الكلب المُدرَّب جيدًا منه إلى الإنسان مُتكامل النُّمو.
يجب على المَرءِ أن يَتعلم كيف يَفهَمُ الدَّوافع التي تُعتَمَلُ في نُفوس النَّاس، وأن يَفهَم أوهامَهُم وآلامهم حتى يُشارك المُجتَمع الذي يَعيش فيه أقرانُه مُشاركةً صحيحةً).
من هذه المُنطلقات كانت اللِّقاءات الكثيرة بين “فرويد” و”أينشتاين”، مِنها طَلب “أينشتاين” من “فرويد” أن يَكتُب له عن التَّحليل النَّفسي لبعض الأمور وقراءات “أينشتاين” لكتب “فرويد”، ففي الرِّسالة التي أرسَلَها “أينشتاين” لـ”فرويد” قد بَدى واضحاً شُكرُهُ لـ”فرويد”، وإعجابه بالمُغامرة الفِكرية التي خَاضها، مُحارباً فيها كل أراءِ عَصرِه، مُتوجهاً بها إلى العالم، وأن الإِنسان ليسَ سيِّدَ نَفسِهِ، بل أنَّ غَرائِزهُ هي التي تُحرِّكُه.
إن ما جمع هاذين العالِمين، ليست الشُّهرة أو النقد الفزيائي للعلم للإنساني النفسي بإعتباره عِلماً نسبياً، فقد كانا أنضج من ذلك، إن الإنسانية هي ما جَمَعَهُما.
تدقيق لغوي: أنس شيخ.
تصميم: رامي نزلي.