يقال أن التجربة هي أعلى سلطة في العلم، ولطالما كان تاريخ الفيزياء حافلا بتلك النظريات الجريئة و الغريبة، والتي لاقت معارضة شديدة في بداياتها و في كثير من الأحيان، من كبار الفيزيائيين و أكثرهم ثورية و تمردا، لكن عندما قالت التجربة كلمتها… صمت الجميع.
في هذه المقال سنتطرق إلى أكثر عشر اكتشافات فيزيائية تأثيرا في تاريخ الفيزياء، وسنحاول قدر الإمكان تناول سياقها التاريخي، تركيبها التجريبي و كذا أثرها العلمي. في الحقيقة تاريخ الفيزياء حافل بمثل هذه الإكتشافات، لذلك وجب التنويه إلى أن هذه المجموعة هي من اختيار الكاتب فقط.
1. تحليـل الضوء الأبيـض – جسيـمات الضـوء
https://pixabay.com/en/spectrum-red-green-blue-light-beam-113362/
في القرن السابع عشر، كانت هنالك نظريتان سائدتان حول ماهية الضوء: الأولى تقول بأن للضوء طبيعية موجية، أما الثانية فتزعم أن له طبيعة جسمية. سنة 1666 قام نيوتن بتجربته الشهيرة: في غرفة مظلمة، مرر شعاعا من الضوء الأبيض في موشور زجاجي، فخرجت من الموشور أشعة بجميع ألوان الطيف السبعة. أي أن الضوء الأبيض هو مزيج لألوان الطيف. هذا الإستنتاج كان يناقض النظرة السائدة وقتها بأن الضوء الأبيض نقي و أساسي، وأن الألوان التي قد تظهر عندما ينعكس على السطوح، ما هي إلا تلطخ يصيب الضوء. نيوتن رأى أن هذه التجربة تدعم النظرية الجسمية للضوء، وكان رأيه بأن الطبيعة الهندسية لقانوني انكسار و انعكاس الضوء لا يمكن تفسيرهما إلا في إطار النظرية الجسمية، حيث استبعد أن تسلك الأمواج سلوكا مماثلا. لكن مناصري النظرية الموجية ردوا بالقول أن العيوب في زجاج الموشور هي التي تسبب تحلل الضوء الأبيض إلى ألوان. كان رد نيوتن عليهم قويا، لقد وضع موشورا ثانيا في مقابل الأشعة الملونة الصادرة من الموشور الأول، فخرجت تلك الأشعة شعاعا أبيضا واحدا من جديد! نيوتن استنتج أن الضوء مؤلف من جسيمات ملونة، تتحد معا لتشكل اللون الأبيض. ولأن المجتمع العلمي آنذاك كان يعتقد أن الضوء لابد أن يكون إما موجيا أو جسميا، فقد عُدّت تجربة نيوتن نصرا للنظرية الجسمية… ولو بشكل مؤقت.
2. الحـيود و التـداخــل – الضـوء عـبـارة عن أمـــواج
https://pixabay.com/en/wave-lines-pattern-abstract-681652/
كانت لنظرية نيوتن الجسيمة للضوء في الواقع نقطة ضعف وحيدة وهي تجربة حيود الضوء (light diffraction) التي قام بها أول مرة الإيطالي فرانشيسكو غريمالدي. للتبسيط، في هذه التجربة يُوجّه شعاع ضوئي نحو لوح حاجز يحتوي على ثقب صغير بقدر كاف، ليخرج الضوء من الجانب الآخر للثقب ويسقط على جدار. لو كان الضوء عبارة عن جسيمات، فيفترض به أن يخرج في خط مستقيم يربط بين مصدر الضوء، الثقب، إلى أن يسقط على الجدار الخلفي في شكل بقعة ضوء صغيرة، لكن الضوء في هذه التجربة حاد في جميع الإتجاهات مُعطِيا بقعة كبيرة من الضوء على الجدار. لم يكن نيوتن مُقنعا بالنسبة للكثيرين في تفسيره لهذه الظاهرة، حين قال أن حُيود الضوء هو فقط نوع جديد من الإنكسار. في سنة 1678، قدم الفيزيائي الهولندي كريستيان هويغنز نظرية موجية للضوء، يشرح فيها تجربة الحيود في إطار رياضي محكم، ويفسر حتى قانوني الإنكسار و الإنعكاس. سنة 1801، قام البريطاني توماس يونغ بتجربة حاسمة على الضوء تسمى التداخل (Interference). تجربة التداخل مشابهة للحيود، لكن مع وجود ثقبين بدل واحد على اللوح الحاجز. إذا كان نيوتن محقا، فإننا سنشاهد خلف الحاجز بقعتي ضوء ناتجتين عن الثقبين طبعا، لكن الذي لاحظه يونغ كان مختلفا تماما: كانت هنالك العديد من البقع المضيئة و المظلمة المتوالية على الجدار الخلفي، هذا كان يدل على أن الشعاعين الضوئيين القادمين من الشقين قد تداخلا. في مواضع معينة كان الضوءان القادمان من الشق الأول و الثاني يتداخلان بشكل بناء، فنحصل على بقعة أكثر نورا. أما في مواضع أخرى، كان الضوءان الآتيان من الشقين يتداخلان بطريقة هدامة، فيلغيان بعضهما البعض تاركين بقعة مظلمة. كان هذا دليلا قاطعا على أن الضوء هو عبارة عن أمواج. لم يتوقف الأمر هنا فحسب، بل كانت النظرية الكهرومغناطيسية مُمَثلة في معادلات ماكسويل الأربع، قد بينت فعلا أن الضوء ماهو إلا موجة كهرومغناطيسية.
كان هذا الأمر أشبه بإعلان وفاة للنظرية الجسمية… على الأقل، حتى مجيء بلانك و أينشتاين.
3. الأثيــر – كونية ســرعة الضـــوء
https://pixabay.com/en/light-bokeh-yellow-red-frequency-681196/
بعد النجاح الذي عرفته النظرية الكهرومغناطيسية في القرن 19، و اقتناع العلماء بطبيعة الضوء الموجية، لم يتبقى سوى شيء واحد ليتم إثبات وجوده، ألا وهو الأثير. فكما أن الأمواج المائية مثلا تحتاج الماء كوسط تنتشر فيه، والأمواج الصوتية تحتاج الهواء كوسط انتشار، كان العلماء يعتقدون بوجود وسط تنتشر فيه الأمواج الكهرومغناطيسية أو الضوء، يملأ كل الفضاء و حتى الفراغ، ولأن هاته الأمواج كانت تنتشر في الفراغ أيضا، فقد أطلق علماء هذا القرن إسم الأثير (Aether) على هذا الوسط، نسبة لإله الضوء عند الإغريق.
من المعلوم أن الأرض تدور حول الشمس بسرعة معتبرة (أكثر من 1000 كيلومتر في الساعة)، لذا يفترض بالحركة النسبية بين الأرض و الأثير أن تتسبب في تغيير سرعة الضوء في الإتجاهات المختلفة، يحدث أمر مشابه لسرعة الأمواج عندما تكون على متن سفينة: بالنسبة إليك، ستكون سرعة الأمواج مختلفة على حسب اتجاه سيرك في البحر، في مثالنا السابق، الأمواج البحرية تلعب دور الأمواج الكهرومغناطيسية، أما البحر فيلعب دور الأثير. سنة 1887، قام الأمريكيان ألبرت ميكلسون و إدوارد مورلي بتجربة تقيس بدقة كبيرة الإختلاف في سرعة الضوء الناجم عن الحركة النسبية للأرض بالنسبة للأثير. كانت تجربتهما تستعمل خاصية التداخل للضوء، حيث يخرج ضوء أحادي التردد من مصدر معين، يتم فصله إلى شعاعين منعكس و منكسر بواسطة مرآة نصف عاكسة، ثم يتم تجميع الشعاعين من جديد باستعمال مرايا أخرى، لنحصل في الأخير على تداخل بناء و هدام. المقاسات التي سينتج بها هذا التداخل هي من ستحدد الإختلاف في سرعة الشعاعين الضوئيين، و بالتالي تمكنهما من قياس الحركة النسبية للأثير بالنسبة للأرض. كانت نتائج القياسات مربكة، إذ لم يكن هنالك أي فرق يذكر في سرعة الضوء القادم من مختلف الإتجاهات، وليس هنالك شيء اسمه الأثير! قادت هذه النتائج العلماء إلى تقديم العديد من النظريات لتفسير ما حدث. في سنته المعجزة كما تسمى، 1905، قدم رجل القرن العشرين ألبرت أينشتاين أربع أوراق بحثية كانت محورية في تطور الفيزياء، من ضمنها واحدة تتحدث عن نظرية جديدة تقدم تصورا جديدا لبنية الزمكان (الزمان-مكان)، و لحركة الأجسام ذات السرعات العالية. استندت النظرية الجديدة لمسلمتين، الأولى تعود لغاليلي، أما الثانية فتنص على أن:”سرعة الضوء في الفراغ ثابت كوني، تبقى ثابتة مهما كانت سرعة مصدر هذا الضوء بالنسبة لنا”. هذه كانت نظرية النسبية الخاصة.
4. الفـعـل الكـهــروضـوئي – الطبيـعة المـزدوجة للضـوء
https://pixabay.com/en/sphere-star-molecular-galaxy-3193244/
سنة 1887، قام الألماني هينريك هيرتز بأحد أهم الإكتشافات على الإطلاق و هو الفعل الكهروضوئي (Photoelectric effect). إنها تجربة يتم فيها تسليط ضوء فوق بنفسجي على سطح أحد صفيحتين ناقلتين مفصولتين، يطبق بينهما توتر كهربائي. سيتسبب هذا الضوء في انتزاع إلكترونات من الصفيحة الأولى لتقفز نحو الصفيحة الأخرى، معطية تيارا كهربائيا. حسب النظرية الكهرومغناطيسية الكلاسيكية لماكسويل، يمكن تفسير الفعل الكهروضوئي على أنه تحويل للطاقة من الموجة الكهرومغناطيسية إلى الإلكترون، كما يفترض أن تكون سرعة الإلكترونات المنتزعة تتناسب طردا مع شدة الضوء المسلط وأن ضوءا خافتا كفاية سوف يتسبب في تأخير زمني قبل انتزاع الإلكترونات من هذه الصفيحة. لكن تجربة هيرتز لم تظهر أي صلة مع أي من هذه التنبؤات للنظرية الكلاسيكية للكهرومغناطيسية، بل بينت أن سرعة الإلكترونات المنتزعة تتعلق فقط بتردد الضوء المسلط وليس بشدته، وأن التيار الكهربائي الناتج عن الإلكترونات المنتزعة يسري تماما في لحظة تسليط الأشعة دون أي تأخير زمني مهما كان الضوء خافتا. سنة 1900، اقترح الألماني ماكس بلانك فكرة مفادها أن الضوء مُكون من كميات محددة من الطاقة من أجل تفسير إشعاع الجسم الأسود الذي شكل لغزا صعبا لسنوات. كان بهذا ماكس بلانك قد وضع حجر الأساس لأحد أعظم النظريات على الإطلاق، وهي نظرية الكم (Quantum Theory)، حيث تعود كلمة الكم في اسمها إلى كمات الطاقة تلك. في استكمال لفكرة بلانك، قدم ألبرت أينشتاين سنة 1905، ورقة بحثية يشرح فيها الفعل الكهروضوئي، بين فيها أن شعاعا ضوئيا بتردد معين هو في الواقع مكون من جسيمات تسمى فوتونات (Photons)، لها طاقة تتناسب مع هذا التردد، و بهذا قدم تفسيرا لجميع المظاهر المبهمة للفعل الكهروضوئي. هكذا يكون أينشتاين و بلانك قد بعثا الروح من جديد في النظرية الجسمية للضوء، و بشكل لا يشق له غبار. منذ ذلك الحين، أيقن العلماء أن الضوء مزدوج الطبيعة ( Duality of Light): الضوء يتصرف كموجة و كحزمة من الجسيمات (فوتونات) في آن واحد. كان هذا الإسهام هو أحد الركائز التي قادت لتطوير نظرية الكم فيما بعد. استحق كل من بلانك و أينشتاين على إثر هذه الإسهامات جائزة نوبل للفيزياء سنتي 1918 و 1921 على الترتيب.
5. أمــواج المــادة – الطـبيـعــة الـمــزدوجـة للمـــادة
https://pixabay.com/en/abstract-lines-form-glow-shiny-1771361/
في أطروحته للدكتوراه سنة 1924، قدم الفرنسي لويس ديبروي فرضيته حول أمواج المادة، التي تنص على أنه مثلما للضوء طبيعة مزدوجة، موجية وجسيمية في آن واحد، فإن الإلكترون، والذي ينُظر إليه على أنه جسيم، له طبيعة موجية أيضا. في أواخر عشرينيات القرن المنصرم، تمكن البريطاني جورج طومسون (ابن مكتشف الإلكترون و الحائز على جائزة نوبل جوزيف طومسون) من تحقيق شكل الحيود، لكن ليس باستخدام الضوء بل باستخدام الإلكترونات. من جهة أخرى و بشكل مستقل، فعل الأمر ذاته الأمريكيان كلينتون دافيسون و ليستر جيرمر. لم يكن ممكنا تفسير الحيود إلا باستخدام الأمواج، فكان هذا الكشف العلمي الكبير دليلا واضحا على صحة نظرية ديبروي حول الطبيعة الموجية للإلكترونات، أو ما سمي بأمواج المادة. سنة 1926، قدم كل إروين شرودينغر و الألماني وارنر هايزنبرغ بشكل مستقل، المعادلة التي تصف تطور هذه الأمواج مع الزمن، والتي سميت باسم شرودينغر، لتكون بذلك المعادلة الأساسية في مكانيكا الكم. مكنت هذه المعادلة من حساب مستويات الطاقة لذرة الهيدروجين و غيرها. تم بعد ذلك التأكد من وجود أمواج المادة مع العديد من الجسيمات الأخرى. كان هذا الكشف العلمي الكبير حجر أساس آخر في بناء نظرية الكم في ما بعد، حيث صرنا نتكلم عن الطبيعة المزدوجة ليس فقط بالنسبة للضوء، بل حتى للمادة بأشكالها كالإلكترونات و النيوترونات و غيرها… كان من الطبيعي أن ينال هؤلاء العظماء جائزة نوبل للفيزياء، حيث حصل عليها كل من ديبروي و هايزنبرغ سنتي 1929 و 1932 على الترتيب. شرودينغر حصل على الجائزة مشاركة مع ديراك في السنة الموالية. أما سنة 1937، فقد حصل على الجائزة مشاركة كل من جورج طومسون و كلينتون دافيسون على اكتشافاتهم العظيمة.
6. يبـدو أن كـل شـي يبتـعد – تــوســــع الكـــــــون
https://pixabay.com/en/milky-way-rocks-night-landscape-916523/
إلى غاية بداية القرن العشرين، كانت هنالك نظريتان متناحرتان تصفان الكون على المستوى الكبير جدا: نظرية الكون المتوسع في مقابل نظرية الكون المستقر. في الحقيقة كان أغلب العلماء بما فيهم أينشتاين يعتقدون أن الكون مستقر، أي أنه ثابت، لا يتوسع و لا يتغير على المستوى الكبير جدا، و أن هذا شكله منذ نشأته. عندما كان أينشتاين بصدد نشر نظريته للنسبية العامة سنة 1915، كان قد رأى أن معادلاته تشير إلى أن الكون سيكون غير مستقر بسبب قوة الجاذبية، لذلك قام بإضافة حد إلى معادلاته سمي بالثابت الكوني، لكي يعمل على إلغاء فعل الجاذبية و الحصول في النهاية على الكون المستقر الذي يعرفه. سنة 1927، نشر البلجيكي جورج لوماتر نظريته عن كون يتوسع و غير ثابت، حيث كان أول من طرح فكرة لبداية الكون على شكل انفجار عظيم. بعد سنتين، في 1929 نشر الأمريكي إدوين هابل ورقة بحثية مدعمة بملاحظات فلكية تثبت أن كل المجرات حولنا تظهر على العموم على أنها تبتعد عنا، هذه الملاحظة ستكون صحيحة حتى لو أخذت من أي مجرة غير مجرتنا بفضل المبدأ الكسمولوجي الذي يخبرنا أن الكون متشابه في جميع الأماكن و الإتجاهات. هذه النتيجة كانت تثبت شيئا واحد: إن الكون الذي نعيش فيه يتوسع! هذه كانت بداية النهاية لنظرية الكون المستقر، وتصدر نظرية البيغ بانغ للمشهد العلمي إلى يومنا هذا. و على الرغم من هذا الكشف التاريخي، لم ينل هابل جائزة نوبل للفيزياء، لأن اللجنة المانحة لم تكن وقتها تدرج الإكتشافات الفلكية ضمن الإكتشافات المؤهلة لجائزة نوبل للفيزياء، وحتى بعد أن صارت تمنح لمثل هذه الكشوفات، لم يحصل على الجائزة لأنه توفي قبل ذلك. رغم أن هابل نال كل المجد و الثناء على هذا الكشف العظيم، إلا أن هنالك الكثير من الإدعاءات برزت سنة 2011 تقول أن أعمال لوماتر تم تغييبها بشكل ما.
إنها فعلا مفارقة أن التسمية الحالية لنظرية الكون المتوسع “البيغ بانغ”، تم إطلاقها من طرف أحد أشد مناصري نظرية الكون المستقر، وهو البريطاني فريد هويل كتصغير و تحقير لفكرة الإنفجار العظيم! أما أينشتاين، فقد اعتبر إضافة الثابت الكوني في معادلات النسبية العامة بأكبر حماقة في حياته. لكن المفارقة أيضا هي أن الإكتشاف العلمي “لتسارع توسع الكون” بعد نصف قرن من الزمان، سيبين أن المعادلات كانت تحتاج فعلا إلى ذلك الثابت الكوني!
7. البــوزيتـــرون – المــــادة المضــــــادة
https://pixabay.com/en/decor-background-abstract-ornament-3379065/
في عشرينيات القرن العشرين، كانت نظرية الكم تشهد تطورات كثيرة على يد العظماء مثل نيلز بور، أينشتاين، شرودينغر وغيرهم. كانت المعادلة الأهم التي تصف حركة الجسيمات المجهرية في ميكانيك الكم هي معادلة شرودينغر. أظهرت هذه المعادلة نجاحا كبيرا أين تطابقت تنبؤاتها مع النتائج التجريبية. رغم كل هذا، كانت معادلة شرودنغر تشهد قصورا واضحا، خاصة في كونها لا تتوافق بعد مع النظرية الأدق التي تصف الجسيمات التي تتحرك بسرعة كبيرة قريبة من سرعة الضوء، وهي نظرية النسبية الخاصة. هذا يعني أن استعمال مثل هذه المعادلة كان يقتصر على حركة الجسيمات ذات السرعات الصغيرة فقط. كانت هناك الكثير من المحاولات الفاشلة للتوفيق بين نظرية الكم و النسبية الخاصة، إلى أن جاء البريطاني بول ديراك سنة 1928 بمعادلته الشهيرة التي تصف حركة الإلكترون، أين دمج النظريتين. لكن ديراك اصطدم بمشكل عويص، وهو أن معادلته تعطي حلولا خاصة بالإلكترون بالإضافة إلى حلول ليس لها تفسير في تلك الحقبة. هنا برزت عبقرية البريطاني عندما فسر تلك الحلول على أنها لجسيم له جميع خصائص الإلكترون التي نعرفها عدا الشحنة، إنه الجسيم المضاد للإلكترون: البوزيترون (Positron). قدم ديراك نظرية يتنبؤ فيها بوجود البوزيترون و يشرح فيها كيف يمكن أن ينشأ جسيم و جسيم مضاد من خلال فوتون يحمل طاقة كافية في حدث يسمى نشوء الجسميات (Pairs Creation)، حيث كان هذا التفسير غير مسبوق على المجتمع العلمي، ولم يلقى ترحيبا كبيرا، لكن التجربة كانت هي الفيصل، حيث تمكن الأمريكي كارل أندرسون سنة 1932 من رصد الجسيم الذي تحدث عنه ديراك. أصبحت المادة المضادة (Antimatter) حقيقة مثبتة و توج ديراك بجائزة نوبل للفيزياء (مناصفة) سنة 1933، أما أندرسون فتوج بها (مناصفة) سنة 1936. فتح هذا الكشف العلمي بابا كبيرا في فيزياء الجسيمات و في طريقة نظرتنا إلى الكون، إذ تبين فيما بعد أن كل الجسيمات الأولية في الكون، و ليس الإلكترون فقط، لها جسيم مضاد. أي أننا أصبحنا نتكلم عن المادة و المادة المضادة. تفترض نظرية البيغ بانغ أنه عقب الإنفجار العظيم، نشأت المادة و المادة المضادة بالتساوي، هذا يقودنا إلى أحد أعظم الأسئلة المطروحة اليوم، وهو لماذا نشاهد في الكون الحالي المادة بينما لا نكاد نشاهد المادة المضادة؟
8. موجـودة رغـم أننا لا نـراها – المــادة المــظـلـــمة
https://www.pexels.com/photo/black-and-gray-abstract-graphic-908283/
يُعتقد أن المسألة تعود إلى الأسكتلندو-أيرلندي اللورد كالفين، في أواخر القرن التاسع عشر، عندما قام بحسابات لتقدير كتلة المادة الموجودة في مجرتنا “درب التبانة”، اعتمادا على سرعة النجوم التي تتحرك في مداراتها حول مركز المجرة. بعد مقارنته لهذه الكتلة مع كتلة النجوم المرئية، خلص كالفن إلى أن الكثير من نجوم مجرتنا، إن لم يكن معظمها، هي في الحقيقة أجسام مظلمة. هذا يعني أن هنالك كتلة كبيرة في مجرتنا لم تكن تشع أو تلمع مثل بقية النجوم، لكنها موجودة هناك. توالت الأحداث إلى غاية سنة 1933، أثناء دراسة السويسري فريتز تزفيكي لعناقيد المجرات (مجموعة كبيرة من المجرات المتجاذبة)، أين تبين له أن الحسابات التي أعطت الكتلة الجاذبية للمجرات كانت أكبر بكثير من الكتلة المحسوبة من خلال الضوء الصادر منها، و بالتالي استنتج وجود مادة هائلة غير مرئية، أطلق عليها اسم: المادة المظلمة (Dark Matter). وجد تزفيكي أن قياسات السرعة التي تدور بها المجرات الواقعة على أطراف العناقيد كانت أكبر من السرعة المحسوبة من كتلة المجرات المرئية في العناقيد فقط، أي أنه بحساب كتلة المادة المرئية فقط، ما كانت هذه المجرات لتتمكن من الدوران حول مركز العنقود، بل كانت لتنفلت بعيدا في الفضاء السحيق، أو ما كانت هذه العناقيد لتتماسك و تتشكل أصلا. توالت بعد ذلك الدلائل على أن كوننا فعلا يحتوي على مادة أكثر بكثير من التي يمكننا رؤيتها بجميع ترددات الطيف الكهرومغناطيسي، من خلال ظاهرة العدسة الجاذبية، إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، تموقع الكتل أثناء تصادم المجرات، تشكل المجرات و تطورها … و غيرها. لقد فرضت المادة المظلمة و ماهيتها نفسها فعلا كأحد أعظم الألغاز التي تواجه الفيزيائيين في الوقت الحالي، ليس فقط لكونها لا تتفاعل مع أي تردد من الضوء، بل لأنها نوعا غير مكتشفة تماما من المادة بالكاد تتفاعل حتى مع المادة المعروفة (إلكترونات، بروتونات…). ما يزيد الأمر غموضا، هو أن كل ما نراه في السماء ليلا من نجوم و مجرات و سدم و غازات و غيرها، و باستخدام جميع أنواع الترددات، من الراديو و تحت الحمراء إلى غاية الأشعة الفوق بنفسجية و السينية، كل هذا لا يشكل إلا 20% من المادة في الكون. أما 80% المتبقية… فهي مادة مظلمة!
9. تســارع تـوســع الكــون – الطــاقة المظــلــمة
https://pixabay.com/en/flame-fire-abstract-burn-1345507/
مع الكشف العلمي الكبير للأمريكي إدوين هابل سنة 1929، عندما لاحظ أن المجرات بصفة عامة تبتعد عنا، بات توسع الكون حقيقة علمية. توالت بعد ذلك الدلائل الكثيرة المشيرة إلى توسع الكون حتى بات النظرية الأقوى، أين عرفت باسم نظرية البيغ بانغ. حيث تنص هذه النظرية باختصار، على أن الكون في بدايته كان في حالة شديدة الكثافة، شديدة الحرارة، لا متناهية في الصغر، أين حدث فجأة الإنفجار العظيم أو البيغ بانغ، بعدها أخد الكون في التوسع إلى إن وصل إلى ما هو عليه اليوم. من جهة أخرى، بالنظر إلى القوة السائدة على المستوى الكبير و هي الجاذبية، كان أمرا شبه مؤكد بالنسبة لمعظم العلماء أن توسع الكون الذي نشهده هو الآن في طور التباطؤ، أو على الأقل يتوسع بوتيرة ثابتة، بسبب كبح هذه القوة للتوسع. الأمر أشبه بما يحدث عندما نرمي حجرا نحو السماء، أين ستكبح قوة الجاذبية حتما سرعة ابتعاد هذه الحجر و تعيده للأرض، أو أنه قد يستطيع أن ينفذ منها، لكن بسرعة ثابتة في أحسن الأحوال. سنة 1998، حصل فريقان علميان يدرسان انفجارات السوبر نوفا البعيدة على نتائج مذهلة حقا: إن الكون يتوسع بوتيرة متسارعة! كان هذا يعني وجود شكل من الطاقة يعمل عكس قوة الجاذبية، بل و أقوى منها بكثير. هذا الشكل من الطاقة لم يكن معروفا أبدا، و هو ما دفع الأمريكي مايكل تورنر إلى تسمية هذه الطاقة بالطاقة المظلمة (Dark Energy)، تماهيا مع تسمية تزفيكي للمادة المظلمة. نظريا، يعتقد أن مصدر هذه الطاقة هو نفسه الثابت الكوني (أنظر فقرة توسع الكون) الذي تراجع أينشتاين عنه معتبرا إياه أكبر حماقة في حياته! توالت المفاجئات عندما بينت الملاحظات أن هذا الشكل من الطاقة يملأ كل الكون بشكل لا يصدق. فقد بينت الملاحظات الأخيرة أن كل أشكال الطاقة المعروفة من المادة المرئية و المظلمة و الإشعاع مجتمعة لا تمثل إلا حوالي 30% من طاقة الكون. أما 70% المتبقية فهي طاقة مظلمة لا نعرف عنها شيئا تقريبا! هذا الكشف العظيم، جعل ثلاثة من قادة تلك الفرق و هم الأمريكيون سول بارلماتر، براين شميديت و أدم رياس يحصلون مشاركة على جائزة نوبل للفيزياء سنة 2011.
10. جسـيـم الـرب – بــوزون هـيـغـز
https://pixabay.com/en/crystal-grid-molecular-grid-3185671/
بعد اكتشاف الذرة و القوانين التي تحكمها في بداية القرن العشرين، كان ينتظر الفيزيائيين عمل كبير لفهم القوى الأربعة التي كانت تحكم الكون: الكهرومغناطيسية، النووية الضعيفة و القوية و أخيرا الجاذبية. كان الأمل هو التوصل إلى نظرية توحد هذه القوى جميعا، إنها نظرية كل شيء (Theory of Everything). بعد عقود من العمل المضنى، و جهود عدد كبير من العلماء من جميع أنحاء العالم، تم دمج اثنين من أعظم نظريات القرن العشرين هما: نظرية الكم التي تحكم العالم الميكروسكوبي، و نظرية النسبية الخاصة التي تحكم حركة الجسيمات عالية السرعة. كانت النتيجة هي نظرية الحقول الكمية (Quantum Field Theory). استنادا لهذه النظرية، تبلورت في سبعينيات القرن الماضي النظرية التي تصنف كل الجسيمات المعروفة آنذلك في الكون و التي تصف كل قوى الكون عدا الجاذبية، سميت هذه النظرية بالنموذج القياسي للجسيمات الأولية (Standard Model of Elementary Particles). توالت بعد ذلك الدلائل التجريبية التي تؤكد صحة هذه النظرية، حيث تم اكتشاف حتى الجسيمات التي تنبأ بها النموذج القياسي و التي لم تكن معروفة في ذلك الوقت. لكن بقيت قطعة واحدة مفقودة، جسيم واحد طال انتظار اكتشافه وهو بوزون هيغز. كان لهذا البوزون دور كبير في النموذج القياسي، ولذلك شكل عدم اكتشافه لغزا محيرا للعلماء. بين سنة 1998 و 2008، و باستثمار ملايير الدولارات بين العديد من الدول، بنت المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN) المنشأة الأكثر تعقيد و الأغلى على مر التاريخ، للتحقق من تنبؤات نظريات الجسيمات الأولية، و على رأسها البحث عن “جسيم الرب” كما يسمى أيضا. هذه الآلة الضخمة هي مصادم الهيدرونات الكبير (Large Hadron Collider). بعد سنوات من العمل، في 4 جويلية سنة 2012 أُعلن عن الإكتشاف الرسمي لبوزون هيغز بعد عقود من البحث. كانت هذه آخر قطعة في النموذج القياسي للجسيمات الأولية. في ديسمبر من العام الموالي، حصل البريطاني بيتر هيغز (والذي سمي الجسيم عليه) و البلجيكي فرانسوا أونغلار مناصفة على جائزة نوبل للفيزياء لقاء تنبؤهما ببوزن هيغز. بهذا الكشف العظيم، يزداد فهمنا أكثر للقوانين التي تحكم الكون، و يجعلنا على الطريق الصحيح لمواجهة السؤال الأصعب، وهو دمج قوة الجاذبية مع بقية قوى الطبيعة في نظرية واحدة تبدو بعيدة المنال، هي نظرية كل شيء.
تدقيق لغوي: زين العابدين لطرش