ظلّت ماهية الحقيقة أحد الإشكاليّات الكبرى في الإبيستيمولوجيا (علم المعرفة) وفلسفة العلم، ومن أكثر المباحث التي اختلف في تعريفها وتحديدها الفلاسفةُ والعلماء، ويبدوا أنّ أهم تحدٍ لتعريفها هو فصلها عن الوهم والزيف. سنتعرف فيما يلي على خمسة تعريفات مبسطة لها.
- تعريف الفيلم ماتريكس:
عندما التقى «نيو» و«مورفيس» أوّل مرّة في الواقع المحاكي، اقترح «مورفيس» تعريفًا للحقيقة: ” الحقيقة هي ما يَظهَر لحواسك، أي ما تستطيع شمّه ورؤيته وتذوقه ولمسه، إذن الحقيقة ليست سوى إشارات كهربائية يُترجمها دماغك”، لكنه تعريف ناقص في عدة جوانب؛ فمثلا الإلكترونات، والرقم 5 والركود الإقتصادي الأخير؛ كلها أشياء لا نستطيع تذوقها أو شمها أو سماعها أو حتى لمسها، ولكنّ معظمَ الناس متفقون على أنها حقيقية. من ناحية أخرى، الحشرات الوهمية التي تَظهَر أمام مُدمِني الكحول أثناء الهذيان الإرتعاشي، والأصدقاء الوهميون الذين يتحدث معهم الأطفال، والروائح الوهمية التي يشمها المرضى المصابون بالزهايمر؛ كلها أشياء مرئية ومسموعة ومشمومة، ولكنها ليست حقيقية؛ إن مجرد ظهور الشيء لحواسنا ليس دليلًا كافيًا على حقيقة وجود هذا الشيء؛ فالهلوسات والظواهر المرتبطة بها كلها غير حقيقية، لأنها غير مرئية أو ملموسة أو مشمومة من قِبَل أي شخص آخر؛ فهي ليست ظاهرة لحواس أي شخص آخر بخلاف الشخص الذي تراوده الهلاوس. إذن، فنحن بحاجة لتعريف أفضل للحقيقة.
- تعريف رواية 1984 لجورج أورويل:
إنّ الحقيقة لا تَظهَر لبعض الناس في بعض الوقت، وإنما تَظهَر لمعظم الناس في معظم الوقت. وهذه الفكرة، التي ترى أن الحقيقة لا تصل إليها إلا أغلبية من العقول تعمل معًا في انسجام، حدث لها بعض التشويه والتحريف في رواية جورج أورويل عندما قال عضو الحزب الداخلي أوبرين: ” أقول لك يا وينستون، الحقيقة ليست خارجية، الحقيقة موجودة في العقل البشري وليس في أي مكان آخر. ليست في عقل الفرد، الذي يمكن أن يرتكب أخطاءً، وفي كل الحالات سرعان ما يذهب في طيّ النسيان؛ وإنما في عقل الحزب، وهو عقل جمعي وخالد “.
وعلى الرغم من أنه أكثر إرضاءً من « تعريف الفيلم ماتريكس». فإنه تعريفٌ شديدُ الضعف أيضًا؛ فهو سينظر إلى الواجهات الواهية لسيناريوهات الديستوبيا (مجتمع خيالي،فاسد ومخيف) مثل سيناريو رواية «1984» بوصفها الحقيقة (فالناس داخل رواية «1984»، تعتبر أنّ ما يخبرهم به الحزب هو الحقيقة المطلقة، رغم أنّ الحزب كلُ أخبارِه مزيفة أو مشوهة).
فلننظر مثلًا إلى مرض كورو، وهو مرض عجيب موجود أساسًا في جنوب شرق آسيا، تشمل أعراضُ المرضِ على القلق الشديد المفاجئ من نكوص الأعضاء التناسلية إلى داخل الجسم؛ ومن ثم التسبب في الموت. وكثيرًا ما ينتشر المرض على هيئة وباء في منطقة معينة؛ على سبيل المثال ظهر المرض في سنغافورة عام 1976 ، فأدَّى إلى دخول 97 مريضًا إلى مستشفًى واحد في يوم واحد. وما يؤدِّي لتعقيد المرض أن المصابين به قد يَلْجئون من فرط القلق إلى اللجوء للكُلَّابات والمَلازم وغيرها من الأدوات الميكانيكية لإيقاف الإحساس بنكوص أعضائهم التناسلية إلى داخل أجسامهم، وغالبًا ما تتسبب هذه الأفعال في أضرار جسيمة، وفي الواقع، أنه ليس ثمة نكوص فعليٌّ ملحوظ يحدث للأعضاء التناسلية؛ فالكورو ليس مرضًا جسديٍّا وإنما مرض عقليا، لكن حسب لتعريف رواية «1984»، فإن تقلص قضيب هؤلاء المرضى أمر حقيقي، لأنه إتفاق جمعي وفي نفس الوقت !
وأيضا حسب هذا التعريف، فإن الصعوبة التي يواجهها المهلوِسون، والأطفال ذوو الأصدقاء الخياليّين، وغيرهم، ليست في أنهم مخطئون في الطريقة التي يَرَوْن بها العالم، وإنما في أنهم أقلية، وبمجرد أن يؤمن عدد كافٍ من الأشخاص بشيء غير حقيقي، فإن هذا الشيء، أيٍّا كان، لا بد من اعتباره حقيقيّا !
- تعريف صامويل جونسون:
الحقيقة هي ما لا نختلقه، وتمنحنا الحكاية التالية حول الأديب «صامويل جونسون» فكرةً عما ينبغي أن نبحث عنه:
“بعد أن خرجنا من الكنيسة، وقفنا نتحدث لبعض الوقت معًا حول سُفسطائية الأُسقف بيركلي المبتكرة لإثبات عدم وجود المادة، وأن كل ما في الكون لا يعدو أن يكون محض أفكار موجودة في العقل، ولاحظتُ أننا رغم تيقُّننا من أن مذهبه غير صحيح، فإنه من المستحيل دحضه، ولن أنسى ما حييتُ الحماسةَ التي ردَّ بها جونسون وهو يضرب بقدمه بمنتهى القوة حجرًا كبيرًا قائلًا: «مع ذلك أنا أدحضه».
بالنسبة لجونسون، الحقيقة هي «المقاومة» التي تبذلها أجسام معينة؛ فأنا أستطيع تخيل مقعد موضوع أمامي بكل تفاصيله وشكله ولونه وملمسه، إلى أن يصبح لديَّ صورة شديدة الوضوح له في عقلي، مع ذلك، إذا حاولتُ الجلوس على هذا المقعد، فإن جسمي سيقع على الأرض، في حين أن المقعد الحقيقي سوف يدعم جسمي، «المقاومة» في هذا السياق ، لا تعني اللانفاذية، وإنما إحجام الأشياء الحقيقية عن التأثر برغباتنا وأمانينا.
وكما يُصوغها «فيليب كيه ديك»، فإن الشيء الحقيقي هو الشيء الذي لا يختفي عندما تتوقف عن الإيمان بوجوده، فبمجرد أن يتوقف طفلك عن الإيمان بوجود صديقه الخيالي، فإن هذا الصديق يختفي، وإذا توقفتَ أنت عن تصور المقعد، فسوف يختفي هذا المقعد الوهمي من الوجود؛ ولهذا فإن هذا الصديق وهذا المقعد (على عكس الأصدقاء والمقاعد العادية) غير حقيقيَّيْن. إذن الحقيقة هي الشيء الذي لا نختلقه. ورغم الطابع المنطقي العقلاني الذي يتسم به هذا التعريف، فإن له بعض، النتائج الغريبة.
بشكل عام، نحن نعتقد أن البورصة حقيقية، وأن الأحلام غير حقيقية، ولكن وفقًا لتعريف جونسون، العكس هو الصحيح، فنحن لا نختلق أحلامنا؛ لأننا لا نستطيع اتخاذ قرار بما نريد أن نحلم به (اسأل أي شخص يعاني من كوابيس متكررة). والأحلام تبذل بعض المقاومة لرغباتنا وأمانينا، فإذا راوَدَك حلم بأن القطار يفوتك، فإن القطار لن يتأخَّر عن موعده خمس دقائق لتلحق به، بل سيرحل في وقته بالضبط في الحلم، وسوف يفوتك، أما البورصة، فهي شيء نختلقه جميعًا، إذا توقف الجميع عن الإيمان بها، بمعنى أن يتوقف الجميع عن الشراء والبيع فيها، فإن الأسهم وأسعارها وتقلباتها سوف تختفي من الوجود، تمامًا كما يختفي الصديق الوهمي الذي توقف الطفل عن الإيمان به.
- تعريف نهاية العالم:
تَخيَّلْ عالَمًا ليس به بشر، أو ربما ليس به عقول؛ ألا يمكننا اعتبار كل ما في هذا العالم حقيقيٍّا؟ كيف سيصبح عالمنا دون عقول واعية؟ إذ سيظل القمر يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس؛ والإلكترونات تدور حول نواة الذرة، لن يكون هناك ألوان، ولكن سيظل هناك ضوء بأطوال موجية مختلفة؛ لن يكون هناك روائح، ولكن ستظل هناك جزيئات عالقة في الهواء؛ لن يكون هناك قصص، ولكن ستظل هناك أوراق الشجر، وهذا التعريف للحقيقة بأنها ما يتبقى في عالمٍ نحن غير موجودين فيه، عالم انتُزِعَ منه كل البشر، وفي حين أن هذا التعريف يتسبب في جعل مجموعة الأشياء الحقيقية صغيرة نسبيٍّا (فاقتصاد العالم واللغات والحروب وغيرها لن تُعَد أشياء حقيقية)، فإنه التعريف الأكثر تماسكًا الذي قابلناه حتى الآن؛ فهو يعادل ما هو حقيقي بما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، بالعالم الذي لم تمسه العقول البشرية، العالَم الذي نُزعت منه كل أماني البشر ورغباتهم واهتماماتهم.
- تعريف السلحفاة:
ذَكَرَ جون لوك في كتابه « مقالة حول الفهم البشري » أنّ هنديا قال :” إن العالم يرتكز على فيل ضخم، وعندما سئل عما يرتكز عليه الفيل نفسه، كانت إجابته: سلحفاة ضخمة. ولكن عندما ضُغط عليه لمعرفة ما ترتكز عليه السلحفاة ذات الظهر العريض، أجاب بأنه شيء لا يدري كنهه”.
فعندما نحلِّل كل ما يحيط بنا من أشياء مادية، سنجد أن الأحذية والسفن وشمع الختم، وكل الأشياء التي نستخدمها يوميٍّا مكونة من جزيئات، وهذه الجزيئات تتكون بدورها من ذرات، وتتكون كل ذرة من نواة صغيرة تُحيط بها إلكترونات. أما النواة فهي تتكون من بروتونات ونيوترونات، التي يمكن تحليلها إلى مجموعة متنوعة من الجسيمات دون الذرية. وكل هذه الجسيمات يمكن تفسيرها في ضوء أوتار، والتي يمكن، تحليلها إلى كيانات أساسية أكثر« لا ندري كنهها »، في هذا التسلسل الهرمي، كل مستوًى يعتمد على المستوى الأدنى منه مباشرة، وفي هذه الحالة يكون الشيء الحقيقي هو الموجود في المستوى الذي يعتمد عليه الآخرون، ولكن دون أن يعتمد هو نفسه على شيء؛ أيِ السلحفاة الأساسية -أيٍّا كانت- التي يعتمد عليها الكون كله.
ويختلف «تعريف السلحفاة» عن «تعريف نهاية العالم» للحقيقة لأنه لا ينظر إلى كل ملامح العالم التي تفتقد إلى العقل على أنها حقيقية: جبل إفرست، على سبيل المثال، رغم أنه مستقل عن العقل، فلا يزال يعتمد في وجوده على وجود أجسام أخرى مادية أصغر وأكثر جوهرية.
الحقيقة هي فقط الشيء أو الأشياء التي تنتهي عندها أدنى حدود الميتافيزيقا؛ أي الأجسام التي تشكِّل المستوى السفلي من سلسلة الاعتماد التي تمتد من البضائع المتوسطة الحجم إلى الجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية إلى وجهةٍ مازلنا لا نعرفها.
من بين تعريفات الحقيقة الخمسة التي ذكرت، يبدو التعريفان الأخيران للحقيقة (أنها ما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، أو هي المستوى الأساسي لكل ما عداها من أشياء) هما التعريفين الأكثر تماسكًا وموضوعية، لكن يظل هذا المبحث معقدا ومتشعبا، ومن أكثر الأسئلة المحيرة للعقل البشري.
المصدر: كتاب الحقيقة للبروفسور يان فيسترهوف
Reality-Professor Jan Westerhoff
تدقيق لغوي: زهير خساني