كانت مسألة أصل اللّغة إحدى الإشكاليات التي اهتمت بها الفلسفة في القرن الثامن عشر. لكن في عام 1866، حظرت جمعية باريس اللغوية La Société de linguistique de Paris رسميا المناقشة في هذه المسألة وألغتها من جدول أعمالها لاعتبارات عدة، منها عدم امتلاك الباحثين لأدلّة ملموسة في أصل اللغة، فكُرِّس علم اللسانيات أنذاك للبحث عن تاريخ اللّغات، و اعتمد اللّغويون أكثر على الأدلّة الموثّقة للّغة، لكنّ الحديث حول لغة ما قبل التاريخ دون أيّة أدلّة عنها عُدَّ تكهُّنًا غير مجدٍ (3) و مناقشةً عقيمةً (8) ، و على الرّغم من وجود بعض الكتابات على الأحجار إلّا أنّها تبقى غير كافية، كما أنّه لا توجد أدلّة للّغة الصوتية spoken language. و بعد سبع سنوات من الحظر (1872)، اتّبعت the Philological Society البريطانية نفس القاعدة: حظر مناقشة موضوع أصل اللّغة (4) (6). تجدر الإشارة إلى أنّ هذه القرارات لا تعني أنّ هذه الإشكالية أُقصِيَت من التطرّق إليها في العلوم التجريبية. فقد خصّص تشارلز داروين في كتابه ” نشأة الإنسان و الانتقاء الجنسي” 15 صفحات ناقش فيها هذه المسألة و أرجع أصل اللّغة إلى أحد الجدود العليا المبكّرة للإنسان الذي قام ب “استخدام صوته في إحداث ايقاعات موسيقية حقيقية ” (ص. 238-239)، و الهدف من هذه الأصوات هو إغراء الجنس الآخر. بعد منتصف القرن العشرين، و بفضل التقاء علم اللّسانيات بمختلف العلوم كعلم النفس و علم الأحياء و الأنثربولوجيا (10)، و عدم توجُّهِه حصريا إلى دراسة اللّغات تاريخيا، أصبح موضوع “أصل اللّغة” واحدة من المواضيع العلميةِ المعقّدة و الأكثرِ إثارةً للجدل.
تفسير نظرية الأصوات الطبيعية
من بين التفسيرات الأوّلية لأصل اللّغة، نجد نظريات ربطت بين اللّغة و مختلف الأصوات في الطبيعة. فما دام نظام السمع عند الإنسان يعمل قبل الولادة (حوالي سبع أشهر)، فالقدرة على المعالجة في وقت مبكر تتطور إلى القدرة على تحديد الأصوات في البيئة، ممّا يسمح للبشر بالربط بين الصوت و الشيء الذي ينتج هذا الصوت. وهذا يؤدّي إلى فكرة أنّ الكلمات البدائية مُستمَدّة من تقليد الأصوات الطبيعية في وقت مبكر. في ما يأتي، سنحاول تلخيص بعض ما جاءت به بعض النظريات: (12)
- نظرية بو واو (bow-wow)، أطلق Jespersen هذه التسمية على النظرية التي افترضت أنّ الأصوات التي أنتجها الإنسان ماهي إلّا أصوات الحيوانات و الطيور، و ماهي إلّا محاولة منه للإشارة إلى هذه الكائنات. مثال على ذلك، كلمة cuckoo التي تشير إلى طائر (الوقواق).
- نظرية pooh-pooh، التي افترضت أنّ التراكمات العاطفية يتم التعبير عنها بالكلام، و الصوت ماهو إلّا انعكاسٌ لحالة الحزن أو الفرح أو الغضب، ك آه، أوه، واو، التي يقولها الإنسان بتغيير طفيف في طريقة التنفس تماشيا مع الحالة النفسية التي يكون فيها.
- نظرية يو-هي-هو (Yo-he-ho)، افترضت أنّ اللّغة نشأت كنتيجة للأصوات التي نتجت عند ممارسة نشاط بدني وبالأخص بين مجموعة من البشر. و قد افترضت أيضا أنّ عيش الإنسان قديما في مجموعات استلزم منه إيجاد وسيلة للتواصل فيما بينهم من أجل الحفاظ على سلامة المجموعة من الهجمات.
تفسير علم الآثار و الأنثروبولوجيا
يعود أقرب دليل على اللّغة المكتوبة إلى ما يقارب 5000 سنة. يقول Andrew Carstairs-McCarthy أنّ بداية اللّغة البشرية تطوّرت قبل تفرّق المجموعات البشرية جغرافيا، فتشير الأدلة الأثرية إلى أنّ استقرار الإنسان في أستراليا وقع في ما لا يقلّ عن 000 40 سنة وربما منذ 000 60 سنة أو أكثر ممّا يوحي بمدى قِدم تاريخ اللّغة. تُعدّ هذه الأدلّة خطوةً لمعرفة شكل اللّغة بالمعنى البيولوجي. يتميّز الإنسان عن غيره من الثديات بخصائصَ صوتية كتجويف الفم و تشكل زاوية قائمة على البلعوم (على شكل حرف L)، و انخفاض نسبي للحنجرة، إلى جانب سمة البلعوم الذي يسمح بمرور الهواء و الغذاء و كذا مساهمته في تشكل الأصوات. إدّعى Lieberman أنّ إنسان نياندرتال (البدائي)، الذي انقرض منذ أزيدَ من حوالي 35،000 سنة مضت، كانت حنجرته عالية مقارنة بالانسان العاقل، ممّا شكّل عائقا أمامه لإنتاج مجموعة كاملة من الأصوات، و هذا العيب كان سببا في انقراض هذا الإنسان. لكنّ العديد من الانثربولوجيين ك Trinkaus و Shipman رفضوا هذا الإدّعاء لاعتماده أساسا على تشريح جمجمة أحفورية. في المقابل، تمّ تقديم تفسيرٍ آخرَ و هو تشكّل الزاوية القائمة للمسالك الصوتية تزامنا مع تطوّر الإنسان لكي يصبح ثنائي القدمين (ك لوسي) منذ زمن بعيد جدا. في حين، هناك تفسير ثالث يدّعي أنّه يمكن التوصل إلى أصل اللّغة من خلال دراسة دماغ جماجم الحفريات، لكن ما ينقص هذا الإدّعاء هو الدّليل، فلا يتوفّر الدماغ كحفريات. (10) (11) (16)
التفسير الجيني
يولد الأطفال بدماغٍ يزن ربع الدماغ المكتمل، و بحنجرة تكون عالية في الحلق. و بمرور بعض الوقت، تنزل الحنجرة و تتّخذ مكانها “الطبيعي” و يكتمل نموّ الدماغ. هذه التطوّرات التلقائية و المعقدة في نفس الوقت دفعت بالعلماء إلى التّساؤل عن العلاقة بينها و بين بداية اللّغة البشرية. حتى أنّ الأطفال الصمّ يتمكّنون من استعمال لغة الإشارة في حالة توفّر الظروف الملائمة. كلّ هذا يشير إلى أنّ الإنسان يولد بقدرة فطرية على إنتاج اللّغة، قدرةٌ غير محصورة في لغة معيّنة، و لا يوجد أيّ كائن آخر يمتلك هذه الملَكة الفطرية غيرَ الإنسان. يحاول المدافعون عن النظرية الفطرية الجينية لاكتساب اللّغة الربط بين اللّغة و علم الوراثة، و كأنّهم يشيرون إلى طفرةٍ حاسمةٍ كمصدرٍ لتكوّن لغة الإنسان العاقل (12). قام بعض العلماء ك Cann الاستفادة من اكتشاف العلم للحمض النووي الميتوكوندريا، هذا الأخير الذي يتم توارثه من الأمِّ فقط، و يعتبر الاختلاف بين الحمض النووي لشخصين كمؤشِّر على العدد من الأجيال التي تفصلهم عن أحدث امرأة و التي ينحدر كلاهما من خلال بناتها، وبنات بناتها، وهلُمّ جرًّا. استفادة علماء الأحياء من هكذا اكتشاف، و باستعمال إحصائيات علمية محددة، ساعدهم على التوصّل إلى استنتاج أنّ النساء عشن في إفريقيا منذ أزيد من 200,000 سنة مضت. قد يبدو هذا الاكتشاف مثيرا للاهتمام لكن في نفس الوقت يدعو للتساؤل عن ما حدث للإنسان في القارات الأخرى و لماذا لا يوجد أيُّ أحفادٍ له. قال بعض العلماء أنّ السبب يعود إلى كون المجموعات التي عاشت في إفريقيا تمكّنت من تطوير و اكتساب قدرات لغويّة متطوّرة مقارنة بمجموعات أخرى في القارات الأخرى، ممّا ساعدها على التّواصل و الاستمرار (10) .
تفسير النظرية الفطرية
يذهب أصحاب النظرية الفطرية إلى أنّ اللّغة تعدّ تنظيماً عقلياً معقداً لأنّها أداة تعبير وتفكير في آنٍ واحد (13). فيقول Noam Chomsky أنّ البشر يولدون ب “قواعدَ عالمية” مدمجة، و هذا ما يفسّر فهم الأطفال للّغة في سنٍّ مبكرة دون الحاجة إلى الكبار لتعليمهم إيّاها، إلى جانب ارتفاع معدّل اكتساب المفردات في مراحل معينة من الحياة. في ورقة بعنوان “Evolution of Universal Grammar” تم نشرها بمجلة Science عدد 2001 و التي كانت استمرارا لورقة سابقة لهم (5) بعنوان ‘The Evolution of Language’ ، حاول كلٌّ من نواك Nowak و زملائه مناقشة الفاصل الذي بين لغة الإنسان و الحيوان. استخدم الفريق الحسابات الرياضية في محاولةٍ للتنبؤ بتطور قواعد اللّغة و حيثياتها. في حين استنتج نواك وفريقه أنّ تطوّر قواعد اللّغة العالمية يمكن أن يحدث عن طريق الانتقاء الطبيعي، اعترفوا بحريّة أنّ “السؤال المتعلق بسبب تطوّر اللّغة عند البشر فقط من الصعب الإجابة عليه” (7). وما يثير اهتمامنا هو أنّ النماذج الرياضية المعروضة في هذه الأوراق لا تخبرنا بأيّ شيء عن نشأة العديد من اللّغات البشرية المنتشرة في العالم اليوم، كما أنّه هناك حلقة ناقصة عن كيفية تطوّر الأصوات المختلفة من مجموع اللّغات المنتشرة. بالإضافة إلى عدم توضيح ورقة نواك كيفية نشأة اللّغات المكتوبة، أو وصف كيف بدأت عملية اللّغة لدى البشر الأوّلين. لهذا يقول Chomsky أنّ لغة الإنسان فريدة و مميّزة من نوعها، لذا فما من داعٍ لمحاولة إيجاد الحلقة المفرغة أو لافتراض أنّ ” الثغرات ” قابلة للرّبط. تماما كمحاولتنا لإيجاد أساس للتطوّر من التنفس إلى المشي (7).
تفسير علم اللغة النفسي
نشر علماء النفس من The University of Auckland (نيوزلندا) دراستين حول تنوّع اللّغات في العالم في مجلة (Science (1 و مجلة Nature 2 . توفّر الدراسة الأولى التي قادها الدكتور Quentin Atkinson دليلا قويا على كون إفريقيا مهد اللّغة البشرية. يوضّح الدكتور Atkinson أنّه بعد تحليلِ و دراسةِ لغاتٍ من مختلف أنحاء العالم تَبيّن أنّ اللّغةَ البشرية -تماما كجيناتنا- تعود أصولها إلى جنوب الصحراء الكبرى بإفريقيا. فقام الدكتور بدراسة الفونيمات (الأصوات المشكِّلة للكلمة) ل504 لغة بشريّة حاليّة، و استنتج أنّ عدد الفونيمات في إفريقيا هو الأعلى و يتراجع عددها كلّما ابتعدنا عن إفريقيا إلى المناطق التي استقرّ فيها الإنسان في القرون الأخيرة. هذا التراجع، حسب الدكتور Atkinson، لا يعود إلى التحولات الديموغرافية أو العوامل الثانوية الأخرى، كما أنّه يوفّر دليلا قويا على الأصل الإفريقي للغات البشرية اليوم باعتبار أنّ اللّغة الأم الأولى للبشر تعود إلى إفريقيا (14) ، فضلا عن الآليات الموازية التي شكّلت ببطء كلًّا من التنوع الجيني واللّغوي بين البشر. من جهة أخرى، هناك دراسة ثانية نشرت في مجلة Nature، قاد هذه الدراسة باحثون من University of Auckland، من بينهم البروفيسور Russell Gray و الدكتور Simon Greenhill بالتعاون مع زملائهم من معهد Institute for Psycholinguistics بهولندا. قام هؤلاء الباحثون بتحدّي الفكرة التي تقول أنّه لدى الدماغ البشري قواعد عالمية للّغة. وباستخدام الأساليب الحسابية المستمدة من البيولوجيا التطوُّرية، قام Gray وفريقه بتحليل الأنماط العالمية لتطوّر ترتيب الكلمات. فبدلا من تبعية الأنماط العالمية في سمات ترتيب الكلمات، وجدوا أن لكلّ أسرة لغوية اتجاهاتها التطورية الخاصّة بها. (9)
أخيرا، ننوِّه إلى أنّ ما تمّ ذكره في هذا المقال ما هو إلّا ملخَّص لبعض التفسيرات فقط، فالمساحة لا تكفي لذكر كلّ التفسيرات (تفسير علم الأعصاب، تفسير التكيّف البدني، تفسير الديانات ..). إنّ نقص المعلومات الكافية حول أصل كلّ لغة و عدم توفّر أيّة حفرية لشرح بداية اللّغة، جعل من إشكالية “أصل اللّغة البشرية” إحدى المواضيع العلمية المعقدة و العميقة التي لا يزال العلماء لحدّ الآن لم يحسموا في أمرها، كما أنّهم يحاولون إيجاد الجواب الكافي لها.
المصادر:
Atkinson, Q. (2011). Phonemic Diversity Supports a Serial Founder Effect Model of Language Expansion from Africa. Science, 332(6027), 346-349. http://dx.doi.org/10.1126/science.1199295
Dunn, M., Greenhill, S., Levinson, S., & Gray, R. (2011). Evolved structure of language shows lineage-specific trends in word-order universals. Nature, 473(7345), 79-82. http://dx.doi.org/10.1038/nature09923
Gans, E. (1981). The origin of language, p. ix. Berkeley: University of California Press
Masataka, N. (2008). The Origins of Language, p. 02. Dordrecht: Springer
Nowak, M.A. and Krakauer, D.C., ‘The evolution of language,’ Proc. Nat. Acad. Sci. USA 96:8028-8033, 1999
Sampson, G. (2014). Can we know how language began? Language And Dialogue, 4(3), 455-464 http://dx.doi.org/10.1075/ld.4.3.05sam
The Origin of Language and Communication. (2018). Trueorigin.org. Retrieved 23 January 2018, from https://www.trueorigin.org/language01.php#b32
Trabant, J. (2001). New essays on the origin of language, p. 1-06. Berlin: Mouton de Gruyter
University of Auckland. (2011, April 15). Africa the birthplace of human language, analysis suggests. ScienceDaily. Retrieved January 22, 2018 from www.sciencedaily.com/releases/2011/04/110415165500.htm
10. هنا
11. هنا
12. هنا
13. حيدر حاتم فالح العجرش، جامعة بابل
14. هنا
تشارلز داروين: نشأة الانسان و الانتقاء الجنسي، ترجمة مجدي محمود المليجى، القاهرة: المجلس الاعلى للثقافة، 2005.
الانسان -اللغة -الرمز: التطور المشترك للغة و المخ: تيرنس دبليو. ديكون، ترجمة شوقي جلال، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2014، ص. 31.
تدقيق لغوي: سهام جريدي