من منّا لم يتحدث مع نفسه؟ الكلام مع النفس أمرٌ يعايشه، وبصفةٍ متفاوتةٍ، أغلبُ الناس. تاريخيًا(2)، تطرّق العديد من الفلاسفة للحديث الداخلي، كأفلاطون Plato، فيكتور ايغر Victor Egger، وبعض علماء النفس كفيغوتسكي Vygotsky، أحد المدافعين عن “theory of inner speech”. فأفلاطون مثلًا، ساوى بين الحوار الداخلي والتفكير وجعلهما مترادفين، وهذا ما نلاحظه في كتابه “محاورة ثياتيتوس لأفلاطون أو عن العلم”(6)، حيث سأل ثياتيتوس سقراط عن معنى التفكير، وكان ردّه كالآتي:
هو حوارٌ توجهّه النفس لذاتها طِوال بحثها في الأشياء التّي تبحثها… أتصور أنّ النفس عند قيامها بعملية التفكير فإنّها لا تفعل شيئًا آخر سوى أن توجه لذاتها حوارًا على شكل أسئلة تجيب عليها تارة بالإيجاب وتارة بالنفي، وعندما تصل إلى قرارٍ سواء بسرعة أو ببطء فإنّها تتأكد منه ولا تعود تشّك فيه، وهذا ما نسميه بالحكم (الرأي)، والحكم تعبير صامت لا للغير بل للذات. (ص.100)
أمّا في علم النفس، فيُقصد بالحديث الداخلي (inner speech) الكلام أو الحوار النفسي الداخلي الذّي يكون دون نطقٍ للكلمات، ويحدث عندما نفكر في أمرٍ ما، نخطط أو نحاول حل مشكلةٍ وبصمت، نحاول تذكّر الكتب التي طالعناها، كلمات الموسيقى التي أعجبتنا أو المحادثات التي سمعناها، وكذا المطالعة والكتابة بصمت(3). في جميع هذه الأمثلة، نحن نفكر ونتذكر بمساعدة كلماتٍ نقولها لأنفسنا وبعيدًا عن مسامع غيرنا. يُمكننا أن نقول أنّ الحديث الداخلي آلية عالمية ومهمّة إلى حدٍ ما للوعي البشري والنشاط النفسي، لكن بالطبع دون استرسال. نمضي الكثير من وقتنا في الاستماع لحديثنا الداخلي. لكن إلى أي مدى يستطيع دماغنا التمييز بين الكلام الداخلي مع النفس والأصوات التي نصدرها عندما نتحدث بصوت مسموع مع غيرنا أو مع أنفسنا؟
أظهرت دراسة حديثة نُشرت في مجلة “eLife” أنّ حديثنا الداخلي مع أنفسنا وكذا حديثنا مع غيرنا يُمكن أن يكون سيّان بالنسبة لدماغنا(4)(5). فلوقتٍ طويلٍ، كان هناك اعتقادٌ أنّ الحوار الداخلي هو الذي يُسبّب الهلوسة السمعية اللّفظية. حيث تُشير الأبحاث السابقة عن الموضوع أنّه إذا أردنا الكلام بصوت مسموع، فإنّ دماغنا يصنع نسخة للسيالات العصبية الصادرة كأوامر (an efference-copy) و التي يتم ارسالها إلى شفاهنا وفمنا وحبالنا الصوتية، تُرسل هذه النسخة إلى المنطقة المسؤولة عن معالجة الأصوات في الدماغ حتى تتنبّأ بالأصوات التي هي على وشك سماعها(1). وهكذا يتمكّن الدماغ من التمييز بين الأصوات الصادرة من حديثنا الداخلي والتي يمكنه التنبؤ بها والأصوات التي يُصدرها غيرنا. وقد شبّه الأستاذ المساعد في جامعة “University of New South Wale” بسيدني، السيد Thomas Whitford، الأمر بردّة فعلنا عند تعرضنا للدغدغة، بحيث أنّ دماغنا يعرف مسبقًا أنّنا من ندغدغ أنفسنا، فلا نحس بأي شيء مقارنةً بدغدغة غيرنا لنا. نفس الشيء ينطبق على حديثنا الداخلي.
ولمحاولة فهم العملية العقلية للحديث الداخلي، والتي كانت ولمدة طويلة فرضية غير قابلة للاختبار، طوّر فريق من الباحثين طريقة موضوعيّة لقياس هذه العملية باستعمال تخطيط كهربية (أمواج) الدماغ (EEG). شملت دراستهم مشاركة 42شخصًا يتمتعون بصحة جيّدة. وقيّمت الدراسة مدى تداخل الأصوات المتصورة (في حالة الحديث الداخلي) مع نشاط الدماغ في حالة الأصوات الفعلية. وخلصت الدراسة إلى أنّ تخيّل إصدار صوت داخلي صامت وحده كان كفيلًا في تقليص نشاط الدماغ الذي ظهر عندما كان المشاركون يسمعون، في آن واحد، نفس الصوت. لهذا عندما يتصور الناس الأصوات، تكون هذه الأخيرة جد صامتة. وبخصوص ايجابيات هذا الاكتشاف، يقول البروفسور “Whitford” عضو فريق البحث، أنّ هذا البحث يفتح المجال لفهمٍ أكثر لاختلاف الكلام الداخلي بين الأشخاص العاديّين والأشخاص الذين يعانون من أمراض ذهانية مثل الفصام “schizophrenia”. ويضيف البروفيسور “نحن جميعًا نسمع أصواتًا في رؤوسنا، ربّما تنشأ المشكلة عندما يكون دماغنا غير قادر على القول أنّنا نحن من ننتج هذه الأصوات” (4) (5).
المصادر:
Bob, P. (2011). Brain, Mind and Consciousness, p. 29. New York, NY: Springer New York
Guerrero, M. (2010). Inner speech – L2, pp. 1-27. New York: Springer
Sokolov, A., & Lindsley, D. (1972). Inner Speech and Thought, pp.01. N.Y: Plenum Publishing Corporation
University of New South Wales. (2017, December 8). Talking to ourselves and voices in our heads. ScienceDaily. Retrieved January 9, 2018 from www.sciencedaily.com/releases/2017/12/171208143043.htm
Whitford, T., Jack, B., Pearson, D., Griffiths, O., Luque, D., & Harris, A. et al. (2017). Neurophysiological evidence of efference copies to inner speech. Elife, 6. http://dx.doi.org/10.7554/elife.28197
د. حلمي مطر أميرة، محاورة ثياتيتوس لافلاطون أو عن العلم، دار غريب للطباعة و النشر و التوزيع، القاهرة، 2000، ص 139.
تدقيق لغوي: عماد الدين.ف