أغلب الناس حتى بعض دارسي العلوم الطبية يرون في أحيان كثيرة الفروق الواضحة بين طبيب و آخر في تحليلهما لنفس الحالة، ما يخلق في نفوس المرضى نوعا من الرِّيبة و انعدام الثقة، كما يُنمّي مشاعر الخوف التي تؤثر سلبا على اتباع المريض للخطوات المناسبة لتحسين حالته و يجد نفسه أحيانا ضحيّة مُدّعي الطب ومحترفي الدّجل والتخاريف بكلّ أصنافهم وعلى اختلاف مذاهبهم، والذين يتكاثرون عاما بعد عام..
يفسّر الأغلبية هذه الحالة بالاختلاف الكبير في التمكّن العلمي بين الأطباء، انطلاقا من التصوّر الخاطئ و الشائع أنّ الطب يعتمد أساسا على الحفظ و أنّه مجرّد حفظ للأعراض و علاجها ثم اسقاط ذلك على الوصفة الطبية في صراف آلي يستطيع القيام به أبسط حاسوب، لكنّ الأمر أعقد من ذلك بكثير، هذا ما دفع بكثير من العلماء إلى دراسة التحليل الطبي، و ألّفوا في ذلك الكثير، وسنحاول توضيح معالمه في صورته الحديثة، لمحاولة إزالة الغموض عنه ومسح غبار الجهل عنه والذي طغى على عقول الناس.
إنّ التفكير التحليلي في الممارسة الطبية الحديثة يعتمد أساسا على المفهوم الكندي الأصل، الذي يُدعى بـ “الطب المبني على الحقائق المثبتة” او “الطب المبني على المعطيات المثبتة” (Evidence-based medecine) (1)، مع الأخذ في الحسبان صعوبة الترجمة، إذ نجد عدّة ترجمات لهذا المفهوم في اللّغة الواحدة، لكن من دون الدخول في التفاصيل السيميائية، يمكن القول أنّ هذه التسمية لا تعبِّر إلّا عن جزء من المفهوم، لكنّها تستعمل من باب التسهيل (2).
إنّ اتخاذ القرار في الممارسة الطبية مبني على ذكاء الطبيب في الموازنة بين موضوعية المعطيات العلمية البيوطبية الحديثة، و ذاتية تقييم واقع الحالة المرضية التي تخصُّ كلَّ مريض على حدى،(3) وذلك من خلال تحليل المكونات الثلاثة للقرار الطبي:
1- الحالة الإكلينيكية و ظروف الفحص.
2- خيارات و سلوك المريض.
3- المعطيات العلمية الحديثة. (4)
تهدف هذه المنهجية أساسًا على إبعاد القرار الطبي عن الحدس و الاستنتاجات القائمة على المعرفة المسبقة بالعمليات الفيسجيولوجية لجسم الإنسان.
تبدأ عملية اتخاذ القرار الطبي بصياغة الطبيب لسؤالٍ يعكس ما يريده المريض لكن بصياغة علميّة، انطلاقا من معطيات المريض المستقاة من الفحص الإكلينيكي و الاختبارات البيولوجية والإشعاعية المناسبة، ثم يبحث الطبيب عن الأدلّة العلمية المتعلقة بالموضوع، بعد ذلك يقوم بتحليل تلك المعطيات و نقدها نقدا علميا بِناءا على قوّتها العلمية، مستفيدا من تصنيفات مستويات قوة البحوث والتوصيات العلمية المتعارف عليها، حتى هذه المرحلة، يُعتبر التحليل موضوعيا إلى أبعد حد، ثم تأتي المرحلة الأخيرة التي تُعتبر الأصعب، و التي تخلق أكثر التباينات بين الأطباء، هي مرحلة اسقاط النتائج الموضوعية على الحالة الخاصة بالمريض مع مراعاة تفرُّد حالته المرضية، نفسيته و خياراته (5)، هذه المرحلة تحتاج ذكاءا و وعيا بالواقع و بطرق التواصل الفعّال مع المرضى.
هذه المنهجية المجهولة من طرف الكثير من غير المتخصّصين، و التي تعتمد على تحليل عدّة جوانبَ في صيغةٍ هي أبعد ما يكون عن العلوم الدقيقة و طريقة “إحفظ و طبّق”، تُفسِر الفروق الواضحة في الآراء بين الأطباء عن نفس الحالة المرضية، لكنّها لا تبرِّر ما نراه من بعض المرضى من الانتقال العشوائي بين الأطباء أو فقدان الثقة الكامل في العلم و الجري وراء النصّابين من بائعي الأحلام، فالطبيب وحده من يملك المؤهلات للقيام بتحليل الحالة المرضية و اتخاذ القرار المناسب.
المصادر و المراجع:
(1) Evidence based Medicine Working Group. « Evidence based medicine ». A new approach to teaching the practice. JAMA1992;268:2420-5.
(2) Gay B., Beaulieu M-D. La médecine basée sur les données probantes ou médecine fondée sur des niveaux de preuve : de la pratique à l’enseignement. Pédagogie Médicale 2004 ; 5 . : 171-183.
(3) Alain C Masquelet . Evidence based medecine (EBM) : quelle preuve a-t-on que la médecine basée sur la preuve apporte un réel bénéfice ?. e-mémoires de l’Académie Nationale de Chirurgie, 2010, 9 (3) : 27-31.
(4) Haynes RB, De ve reaux PJ, Guyatt GH. La compétence du clinicien à l’ère de la médecine fondée sur les niveaux de preuve et de la décision partagée avec les patients. EMB Journal (édition française) 2003 ; 34 ; 5-8.
(5) Roch Giorgi. Principes de l’EvidenceBased-Medicine (médecine basée sur les faits). Laboratoire d’Enseignement et de Recherche sur le Traitement de l’Information Médicale. Faculté de Médecine de Marseille, Université de la Méditerranée.
تدقيق لغوي: سهام جريدي
Discussion about this post