فيزياء الكم جديدة؟
خلال الفترة الممتدّة من منتصف إلى أواخر القرن العشرين، انتقد اختصاصيو الفيزياء الكمية النظرية الموحدة للفيزياء التي قدّمتها نظرية أنشتاين للنسبية. لطالما كانت فيزياء الأجسام الكبيرة تحكمها الجاذبية، لكن فيزياء الكم وحدها يمكن أن تصف سلوك الجسيمات تحت الذرية. ومنذ ذلك الحين، استمرّ الصراع العنيف بين الجاذبية والقوى الأساسية الثلاث الأخرى، فيحاول الفيزيائيون تعميم الجاذبية أو فيزياء الكم لـ يكون أحدهما اكثر أساسية ومتضمنا الآخر كحالة خاصة.
تُظهر القياسات الأخيرة من مصادم الهادرونات الكبير (Large Hadron Collider) تعارضًا مع تنبّؤات النموذج العياري (Standard Model) التي قد تلمّح إلى وجود شكل آخر وجديد تمامًا من الكون يقبع تحت ما تصفه ميكانيكا الكم. بالرغم من أنّ الاختبارات المتكرّرة مطلوبة لتأكيد هذه التعارضات، التأكيد سيدل على نقطة تحوّل في وصفنا الأساسي لفيزياء الجسيمات حتى الآن.
في دراسة حديثة، وجد علماء فيزياء الكم أنّ الميزون mesons لا يتحلّل إلى كاون kaon وجزيئات ميون muon بما فيه الكفاية، وفقًا لتنبّؤات النموذج العياري. يتّفق ناشرو البحث على أنّ تعزيز قوة معجّل الهادرونات الكبير (LHC) سيكشف عن نوعٍ جديد من الجسيمات المسؤولة عن هذا التعارض. بالرّغم من أنّ الأخطاء في البيانات أو النّظرية قد تكون السّبب في التعارض، بدلًا من الجسيمات الجديدة، تحسين مصادم الهادرونات الكبير (LHC) سيكون أمرًا جيّدا ليخدم الفيزياء.
النموذج العياري أو القياسي The Standard Model
النموذج العياري نظرية أساسية راسخة في فيزياء الكم تصف ثلاث من بين أربع قوى أساسية يُعتقَد أنّها تحكم واقعنا المادي. تظهر الجزيئات الكمية في نوعين أساسيين: الكواركات (quarks) واللبتونات (leptons). ترتبط الكواركات فيما بينها في مجموعاتٍ مختلفة لبناء جسيمات كالبروتونات والنيوترونات. نحن نعرف البروتونات والنيوترونات والإلكترونات لأنّها اللبنات الأساسية للذّرات.
تتميّز عائلة اللبتونات باحتوائها على نماذج أثقل من الإلكترونات كالميون، ويمكن أن تلتحم الكواركات في مئات الجسيمات المركّبة الأخرى. يعتبر الميزون القعري وميزون الكاون المسؤولون عن لغز الكوانتم. يتفكّك الميزون القعري (B) إلى ميزون الكاون (K) ترافقه جسيمات الميون (mu-) والميون المضاد (mu+).
الانحراف
وجد الباحثون أنّ الانحراف المعياري يقدّر بـ 2.5 سيجما، أو باحتمال 1 من 80، فيقول أحد كبار العلماء بـ Lawrence Berkeley National Laboratory، البروفيسور Spencer Klein لـ Futurism:”ممّا يعني أنّه في غياب الآثار غير المتوقّعة (أي الفيزياء الجديدة)، سيتمّ إصدار توزيعٍ أكثر انحرافا ممّا لوحظ بحوالي 1.25 في المئة من الوقت”. مع العلم أن Klein لم يشارك في الدراسة.
هذا يعني أنّ تواتر الميزونات المتحلّلة إلى كواركات غريبة خلال اختبارات تصادم البروتون انخفض قليلا عن التواتر المتوقّع. يقول “Klein”:” التواتر هنا هو أنّه مع 2.5 سيغما [أو الانحراف المعياري من معدّل الاضمحلال الطبيعي] تكون البيانات ملغاةً نوعًا ما، أو تكون النظرية ملغاةً قليلا، أو أنّها تلميحٌ لشيءٍ يتجاوز النموذج العياري، لذا أودّ أن أقول، بكلّ سذاجة، أنّ أحد الاحتمالين الأوليين هو الصحيح”.
بالنسبة لـ “Klein”، هذا التعارض أمرٌ لا مفرّ منه بالنظر إلى ارتفاع حجم البيانات التي تديرها أجهزة الكمبيوتر لعمليات مصادم الهادرونات الكبير LHC. وقال “Klein”:”مع مجموعة البيانات بحجم البيتابايت ( 1510 بايت) من LHC، ومع أجهزة الكمبيوتر الحديثة، يمكننا إجراء عدد كبير جدًا من القياسات لكمياتٍ مختلفة، وقد أنتجت LHC العديد من المئات من النتائج. إحصائيًا، من المتوقّع أن تظهر بعضها تقلبات بـ 2.5 سيغما”. وأشار “Klein” إلى أنّ فيزيائيي الجسيمات ينتظرون عادةً تقلب 5 سيغما للتأكّد -أيّ ما يعادل تقريبا 1 في 3.5 مليون من التقلب في البيانات. الانحرافات التي تم ملاحظتها مؤخرًا لا تحدث في الفراغ. قال الدكتور “Tevong You” لـ Futurism- مؤلّف مشارك في الدراسة وزميل باحث في الفيزياء النظرية في Gonville and Caius College بجامعة Cambridge:
“الجانب المثير للاهتمام في النماذج بين الاثنين هو تناسقها مع القياسات الشاذة للعمليات على الميزونات B التي تمّ إجراؤها في السنوات السابقة، هذه القياسات المستقلّة كانت أقلّ نقاءً لكن أكثر أهمية. وبشكل عام، فإنّ فرصة قياس هذه الأشياء المختلفة وجعلها جميعًا تحيد عن النموذج العياري بطريقة متّسقة أقرب إلى 1 في 16000 احتمال، أو 4 سيغما”.
توسيع النموذج العياري
بغضّ النّظر عن الأخطاء الإحصائية أو النظرية، يشتبه “Tevong” في أنّ الاختلالات تخفي وجود جسيماتٍ جديدة تمامًا، تُدعى Leptoquarks أو الجسيمات الأولية Z. وفي داخل الميزونات القاعية، يمكن أن تتداخل الإثارة الكمومية للجزيئات الجديدة مع تردّد الاضمحلال الطبيعي. يَستنتج الباحثون في هذه الدراسة إلى أنّه بإمكان LHC “مُحسَّن” تأكيد وجود جسيمات جديدة، ممّا يؤدّي إلى تحديث هام للنموذج العياري في هذه العملية”.
يقول “Tevong”:”سيكون -الأمر- ثوريًا لفهمنا الأساسي للكون”. وأضاف:”بالنسبة لفيزياء الجسيمات […] فإنّ ذلك يعني أنّنا نقشّر طبقة أخرى من الطبيعة ونستمرّ في رحلة اكتشاف أكثر اللبنات الأساسية. سيكون له انعكاسات على علم الكونيات، لأنّه يعتمد على نظرياتنا الأساسية لفهم بداية الكون”. “كان التفاعل بين علم الكونيات وفيزياء الجسيمات مثمرًا جدًا في الماضي. أمّا بالنسبة للمادّة المظلمة، إذا تمخّضت من نفس الفيزياء الجديدة أين يكون الجسيم الأولي Z و Leptoquark مدمجان فيها، عندها يمكن أن نجد إشاراتٍ على ذلك عندما نستكشف هذا المجال الجديد”.
القدرة على المعرفة
حتى الآن، راقب العلماء في LHC الأطياف والاختلالات التي لُمحت في الجسيمات التي توجد في مستوياتٍ أعلى للطاقة. ولإثبات وجودهم، يقول “Tevong”:”يحتاج (الفيزيائيون) إلى تأكيد العلامات غير المباشرة […]، وهذا يعني التحلّي بالصبر في انتظار تجارب LHCb التي تجمع العديد من البيانات عن انحلالات B لإجراء قياسٍ أكثر دقّة”. وأضاف:”سوف نحصل أيضًا على تأكيد مستقلّ من قبل تجربة أخرى، Belle II، التي ستُبث على الإنترنت في السنوات القليلة القادمة. بعدها، إذا كانت قياسات الانحلال B لا تتوافق مع تنبّؤات النموذج العياري، عندها يمكننا أن نكون واثقين من أنّ شيئًا ما يتجاوز القياس العياري يجب أن يكون هو المسؤول، وهذا من شأنه أن يشير إلى Leptoquarks والجسيمات الأولية Z كتفسير”.
لإثبات وجودها، سيهدف الفيزيائيون بعد ذلك إلى إنتاج الجسيمات في المصادمات بنفس الطريقة التي تنتج بها الميزونات القعرية و بوزونات هيغز، وثمّ مشاهدتها تتحلّل. يقول “Tevong”:
“نحن بحاجة إلى أن نكون قادرين على رؤية Leptoquark أو الجسيم الأولي Z تخرج من اصطدامات LHC .. حقيقة أنّنا لم نر أيّ من هذه الجسيمات الغريبة في LHC -حتى الآن- يعني أنّها قد تكون ثقيلة جدًا، وسوف تكون هناك حاجة إلى المزيد من الطاقة لإنتاجها. هذا ما قدّرناه في ورقتنا: جدوى الاستكشاف المباشر لـ Leptoquarks والجسيمات الأولية Z في المصادمات المستقبلية وبطاقة عالية”.
قفزة كمية لمصادم الهادرونات الكبير LHC
البحث عن جزيئات جديدة في LHC ليست لعبة انتظار. واحتمال مراقبة الظواهر الجديدة يتناسب طرديًا مع عدد الجسيمات الجديدة المنبثقة من التصادمات. يشرح “Tevong” الأمر قائلًا:”كلّما ظهر الجسيم كلّما زادت فرص اكتشافه بين العديد من خلفية الأحداث الأخرى التي تحدث خلال تلك التصادمات”. ولأغراض العثور على جسيماتٍ جديدة، يشبّه الأمر بالبحث عن إبرة في كومة قشّ. فمن السّهل العثور على إبرة إذا تمّ ملء كومة قشّ بالإبر، بعكس إبرة واحدة في الكومة. ويقول:”إنّ معدّل الإنتاج يعتمد على كتلة الجسيمات والوصلات، فالجسيمات الأكثر ثقلًا تتطلّب المزيد من الطاقة للإنتاج”.
لهذا يوصي كل من “Tevong” و B.C. Allanach و Ben Gripaios (مؤلفون مشاركون) بتمديد طول حلقات LHC، وبالتالي، تقليل كمية الطاقة المغناطيسية اللازمة لتسريع الجسيمات، أو استبدال المغناطيس الحالي بآخر أقوى منها.
وفقا لـ”Tevong”، من المقرّر أن يستمرّ مختبر CERN في تشغيل LHC بالإعدادات الحالية حتى منتصف ثلاثينيات هذا القرن (2030s). بعد ذلك، يمكن أن يحسّنوا مغناطيسيات LHC بما يناهز ضعف قوّتها. بالإضافة إلى المغناطيسيات القوية، يمكن أن يشهد النفق توسعًا من 27 كيلومترا (حاليا) إلى 100 كلم (17 إلى 62 ميلا). يقول “Tevong”:” إنّ التأثير المشترك […] سيعطي حوالي سبعة أضعاف الطاقة أكثر من LHC .. سيكون الجدول الزمني للإنجاز على الأقلّ في أربعينيات القرن الحالي (2040s)، على الرّغم من أنّ الأمر مبكّرٌ جدًا لتقديم تنبّؤات مجدية”.
يؤكّد “Tevong” أنّه إذا تمّ تأكيد انحرافات Leptoquark والجسيمات الأولية Z، يجب تغيير النموذج العياري. وأضاف:”إنّه من المحتمل جدًّا أن يتغيّر على مستويات الطاقة التى يمكن الوصول إليها مباشرةً من الجيل القادم من التصادمات، الأمر الذى سيضمن لنا إجابات”. وبينما نلاحظ أنّه لا أحد يعلم إذا ما كانت المادّة المظلمة لها علاقة بالفيزياء التي تقف وراء الجسيمات الأولية Z أو Leptoquarks، فإنّ أفضل ما يمكننا القيام به هو البحث عن”أكبر قدرٍ ممكن من قياسات الانحرافات، سواءً في التصادمات، أو تجارب فيزياء الجسيمات الصغيرة، أو عمليات البحث عن المادّة المظلمة، أو عمليات الرصد الكونية والفيزيائية الفلكية .. عندها سيكون الحلم بأن نستطيع تشكيل روابط بين العديد من المفارقات التي يمكن ربطها من خلال نظريةٍ أنيقة واحدة “، يقول “Tevong”.
المصدر: Futurism
تدقيق لغوي: هاجر بن يمينة