Site icon الباحثون الجزائريون – Algerian Researchers

تاريخ موجز عن تطور الأعداد المركبة (الجزء الثاني)

https://pixabay.com/en/mathematics-formula-physics-school-3393240/?fbclid=IwAR2VEfUhzfLbT3Qtii4t5qJgLanyt4Yckc4PrK4ny9xw1_Lp0z7DhZ3toYA

كنا قد عرفنا في الجزء الأول من هذه السلسلة كيف استطاع سيبيوني ديل فيرو (1465-1526) (Scipione del Ferro) إيجاد حله السحري للمعادلات التكعيبية، لكن وكما كان شائعا في تلك الحقبة، فإنه لم ينشر أبدا هذه النتائج، وأبقاها طي الكتمان.

قد يبدو هذا غريبا، كون الرائج في عصرنا هذا أن يتنافس الباحثون وعلماء الرياضيات على نشر أعمالهم ونتائجهم، ما من شأنه أن يعزز فرصهم في الحصول على منصب أكاديمي أو الترقية لرتبة أعلى. لكن في تلك الأيام، ديل فيرو ومعاصريه كانوا أشبه برجال أعمال مستقلين، يكسبون رزقهم بتحدي بعضهم البعض في مناظرات علمية لحل مختلف المسائل الرياضية. وبطبيعة الحال فإن الفائز يحصل على جائزة مالية أحيانا و المجد العلمي في كثير من الأحيان، ومع بعض الحظ، قد يحصل على دعم أحد السادة، يضمه إلى بلاطه ويتعهده ماليا مقابل أن يتفرغ لأبحاثه. وبما أن فرص الفوز في مثل هذه المناظرت تكمن في معرفة حل المسائل التي لا يستطيع الأخرون حلها، نستطيع أن نفهم لماذا كانت السرية هي السمة السائدة للعلماء في ذلك الوقت.

المتلعثم والتلميذ:

في الحقيقة، إن ديل فيرو تقريبا أخذ سره معه ولم يخبر سوى قلة قليلة من أصدقائه المقربين بحله، وعلى فراش موته باح بسره للمرة الأخيرة لتلميذه أنطونيو ماريا فيوري (Antonio Maria Fiore) من فينيسيا، ومع دخول هذا الأخير إلى المشهد، تأخذ قصتنا منحى دراميا جديدا.

في الحقيقة، إن فيوري لم يكن عالم رياضيات جيدا على  وجه الخصوص، ولأن المعرفة هي سلاح فتاك ذو حدين. ففي سنة 1535، تحدى فيوري أستاذ رياضيات من فينيسيا يفوقه شهرة وبراعة في الرياضيات، كان اسمه نيكولو فونتانا تارتاغليا (Niccolo Fontana Tartaglia) (1499-1557)، سبب هذا التحدي أن فونتانا كان قد أعلن أنه قادر على حل المعادلات التكعيبية من الشكل:

الأمر الذي لم يصدقه فيوري، ما جعله يرى أن فونتانا صيد سهل ومنافس مثالي ليفوز عليه في مناظرة علنية. قام التحدي على أن يطرح كلا الخصمين 30 مسألة لبعضهما، والخاسر منهما ملزم بدفع ثمن 30 مأدبة للطرف الرابح.

فونتانا والذي يعرف اليوم أكثر باسم تارتاغليا (Tartaglia) الذي يعني المتلعثم (بسبب إعاقة في النطق سببها جرح في فكه من ضربة سيف جندي فرنسي غاز عندما كان في الثانية عشرة من عمره)، كان اقترح مجموعة متنوعة من المسائل، بينما فيوري كان في جعبته سهم واحد فقط، فكل مسائلة كانت عبارة عن معادلات تكعيبية من النوع

في الليلة ما بين 12 و 13 من شهر فبراير، وبوقت وجيز فقط قبل انتهاء المهلة المتفق عليها، كان تارتاغليا على موعد مع إلهام من نوع خاص، حيث استطاع التوصل إلى الطريقة نفسها التي سبقه إليها ديل فيرو لحل المعادلات (1). وفي يوم المناظرة، بدا جليا أن فيوري غير قادر على حل أي من المسائل التي اقترحها خصمه، في الوقت الذي استطاع تارتاغليا حل جميع مسائل فيوري، ليثبت أنه غير مدع في زعمه وتم إعلانه فائزا في المناظرة. كان شرف الفوز وحده كافيا لتارتاغليا، فتنازل عن حقه في 30 مأدبة.

العالم المقامر:

في وقت مبكر من عام 1539، صعد إلى المشهد ممثل آخر: جيرولامو كاردانو (1501-1576)(بالإيطالية: Gerolamo Cardano)، طبيب مشهور، منجم، فيلسوف، رياضي  ومقامر بارع من ميلانو (نحيل القارئ المهتم بحياة هذا العالم الفذ إلى كتاب Cardano The Gambling Scholar لمؤلفه Oystein Ore). سمع كاردانو باكتشاف تارتاغليا، هذا الأخير الذي كان قد أزمع أن يحتفظ بسر طريقته لنفسه مثل ديل فيرو من قبله.

وكمحاولة من كاردانو للحصول على هذا السر بعث بصديقه تاجر الكتب من فينيسيا زوان أنطونيو دي باسانو (Zuan Antonio da Bassano) كوسيط بينه وبين تارتاغليا، ولما رفض تارتاغليا إفشاء سره، ترجاه كاردانو أن يزوره في ميلانو وينزل ضيفا عليه في بيته، واعدا إياه في الوقت نفسه بتقديمه إلى الماركيز ألفونسو ديفالوس (Alfonso d’Avalos) القائد العسكري لميلانو. قبل تارتاغليا هذه الدعوة، حيث كان متعطشا لعرض اختراعاته العسكرية للماركيز.

بعد وصول تارتاغليا لميلانو بوقت وجيز، نجح كاردانو في إقناعه بالكشف عن سره لحل المعادلة (1)، مقابل أن يقسم هذا الأخير بعدم إفشاء هذا السر لأي كان، ورغم هذا القسم فإن تارتاغليا باح لكاردانو بصيغة الحل فقط وليس بالطريقة التي تقود إليه.

كاردانو لم يكن قديسا، لكنه كذلك لم يكن وغدا، الراجح أن كاردانو لم يكن بنيته النكث بعهوده، على الأقل حتى سمع بأن ديل فيرو هو أول من توصل إلى طريقة حل المعادلات (1)، وتأكدت شكوكه بعد أن استطاع الوصول إلى بعض أوراق هذا الأخير عن طريق مساعدة أحد أقاربه، وهنا وجد كاردانو نفسه في حل من عهوده لتارتاغليا. استطاع كاردانو إعادة اكتشاف الطريقة التي تقود لصيغة حل المعادلة (1) ونشرها في كتابه Ars Magna والتي تعني الفن العظيم (باللاتينية) سنة 1545. ربما ليس مهما أن نشير (لكننا نذكره على أية حال) إلى أن كاردانو ذكر في هذا الكتاب أن ديل فيرو هو المكتشف الأصلي لهذه الطريقة وأن تارتاغيليا أعاد اكتشافها بطريقة مستقلة، ورغم هذه الإشادة، فإنها لم تشفع له عند تارتاغليا الذي شن عليه هجوما لاذعا، متهما إباه بالإنتحال (السرقة العلمية) وبما هو أسوأ.

في الحقيقة كاردانو لم يكن منتحلا (لأن المنتحلين لا يقدمون مساهمات علمية جديدة)، فقد أثبت في نفس الكتاب أنه استطاع توسيع طريقة ديل فيرو-تارتاغليا لتشمل حل المعادلات من الشكل العام

 ثم باستخدام تغيير المتغير

استطاع أن يستنتج الشكل الجديد للمعالة

حيث

و

ثم مستلهما خطواته من طريقة ديل فيرو- تارتاغليا، وجد هذه العبارة التي تحمل اسمه

كان يمكن لهذه الصيغة أن  تكون النهاية السعيدة لحل المعادلات التكعيبية، لكن بقليل من الملاحظة سنجد أن هناك تنينا رابضا داخل هذه الصيغة، بعبارة أخرى، إذا كان

فإن صيغة الحل أعلاه ستحوي جذرا تربيعيا لعدد سالب، ومع هذا فالمعادلة ستقبل حلولا حقيقية،الراجح أن كاردانو كان واعيا بهذه المشكلة بالرغم من تجاهله لها في كتابه، إذ في كل الأمثلة التي ساقها كانت القيمة أعلاه موجبة دائما.

لكنه تدارك الأمر في فصل لاحق من نفس الكتاب وتناول ولو بتشكك مسألة وجود أعداد تخيلية للمرة الأولى، ففي المسألة التي اقترحها كالتالي: لقسمة العدد 10 إلى جزئين بحيث يكون جداؤهما يساوي 40. كتب كاردانو عن هذه المسألة من الواضح أنها مستحيلة، ومع ذلك سنواصل الحساب، ببعض الرياضيات البسيطة سنجد أن هذه المسألة تقود للمعادلة التربيعية

بحيث يكون  و  هما الجزئين المذكورين في المسألة، والتي تقبل كحلول: الجذرين السفسطائيين (هكذا أسماهما)

 و 

مجموعهما يساوي 10، وللتأكد من جدائهما كتب كاردانو :

لنضع جانبا كل ما يعذبنا عقليا، نضرب 

 ب

سنجد 

وبالتالي الجداء يساوي 40…هذا صحيح بشكل سفسطائي.

لم يتابع كاردانو المسألة و خلص إلى أن النتيجة بقدر ما هي دقيقة، هي غير مفيدة.

ومع هذا، يعتبر هذا الحل حدثا تاريخيا بامتياز، إذ تعد أول مرة في تاريخ الرياضيات يتم التعامل مع الجذر التربيعي لعدد سالب بشكل صريح، ويكون كاردانو بذلك أول من خط الأعداد التي نسميها اليوم بالمركبة (العقدية) على الشكل

رغم كل شكوكه حولها.

يتبع…

المصادر:

.B. L. van der Waerden, A History of Algebra, from al-Khwarizmi to Emmy Noether, Springer Verlag, NY 1985

.P. Nahin, An Imaginary Tale, The Story of i the square root of minus one, Princeton U. Press, NJ 1998

.C. Brezinski, Histoires de sciences : Inventions, découvertes et savants

 

تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي

Exit mobile version