تقول ميكانيكا الكم أنه لا وجود للجسيم وليس له حالة محددة قبل القياس أو الرصد، لكن لماذا نرى الجسيمات موجودة وفي حالة محددة دائما؟ هنا نحتاج مبدئًا أساسيًا من مبادئ ميكانيكا الكم، مبدأ انهيار الدالة الموجية، ويعني أن قيامنا بالقياس او الرصد هو من يخلق الجسيم ويحدد حالته! لكن كيف يحدث هذا الانهيار؟ هل تفرض الطبيعة علينا هذا المبدأ أم أنه مجرد تفسير يجعلها أكثر غموضا مما هي عليه؟
بالنسبة لتفسير كوبنهاجن فإن مبدأ انهيار الدالة الموجية لا مفر منه، لأن انهيارها هو الذي يخلق الجسيم ويحدد حالته بمجرد القياس أو الرصد، ولا يوّضح المبدأ كيف يخلق القياس أو الرصد الجسيم وكيف يحدد حالته.
ومن هنا تنشأ المشاكل، فلا وجود للمبدأ نفسه في معادلات ميكانيكا الكم المعتمدة، وإنما هو إضافة للنظرية تعني فقط أن النظام الكمومي ينتقل فجأةً بفعل القياس أو الرصد من حالة كمومية عامة وغير محددة إلى أخرى خاصة ومحددة، وبالتالي تنقسم المعادلات التي تصف الحالة الكمومية إلى قسمين، معادلة تصف النظام الكمومي قبل القياس أو الرصد، وأخرى تصف النظام الكمومي بعد القياس او الرصد.
المشكلة أن الانتقال بين المعادلتين ليس مستمرًا، بمعنى أن النظام الكمومي الذي تصفه معادلة ما أصبح فجأة وبفعل القياس تصفه معادلة أخرى! ولا نعرف كيف تم التحول من معادلة لأخرى، لا نعرف كيف للقياس أو الرصد أن يخلق ويحدد حالة الجسيمات، تُعرف هذه المشكلة بمشكلة القياس.
في الحقيقة يوجد تفسير آخر يحل مشكلة القياس هذه، في ميكانيكا دي براولي وبوم، يكون الجسيم موجودًا دائمًا قبل القياس أو الرصد، ويُرافقُ الجسيم موجة دائمًا، هي من تتحكم في حركته وترشده، فإذا انقسمت هذه الموجة في مسارين مثلاً، يظل الجسيم مصحوبًا بقسم منهما، ولاحقًا إن تداخل القسمين معًا يُظهر الجسيم نمطَ تداخلٍ لأنه أصبح مُرافقًا بموجة تداخلت مع قسمها الآخر، وهذا ما يحدث في تجربة الشق المزدوج الشهيرة كما بالصورة، وبالتالي يبدو كما لو كان الجسيم يتصرف كموجة بالرغم من كونه جسيم :
كما نلاحظ هنا نحن في غنى عن فرض انهيار الدالة الموجية لخلق الجسيم، يكفي فقط أن نعرف أن الجسيم موجود وله حالة معينة، بالرغم من أن القياس أو الرصد يغير غالبًا من هذه الحالة مما يؤدي إلى منع حصول نمط التداخل في التجربة، هنا تتغير فقط حالة الجسيم بسبب القياس أو الرصد فلا يحصل نمط التداخل لأن قسم الموجة التي تصحب الجسيم تم امتصاصها في أداة القياس (Decoherence بتعبير بوم)، لكن لا يتم خلق الجسيم بفعل القياس او الرصد.
ماذا يعني الـ Decoherence؟ ولماذا يحصل امتصاص للموجة وقت القياس؟ ولماذا يمنع الامتصاص نمط التداخل؟
للإجابة على ذلك سنحتاج لتحليل عملية القياس من وجهة نظر بوم:
بفعل القياس، يحدث تفاعل بين الجسيم الصغير الذي نريد رصده والذي يصحبه موجة، وبين العالم الكبير (أداة القياس أو الرصد) والذي يرافق جسيماته موجة أيضا، بسبب هذا التفاعل تتلامس الموجتان معا، فيحدث تبادل لكمية الحركة بينهما، وهذا ما يؤثر في حالة الجسيم ويغيّرها، وهذا ليس مهمًا.
المهم أن قسمًا من الموجة التي تصحب الجسيم والمسؤولة عن حركته، يذهب للأبد بعيدًا عن كلا من الجسيم والقسم من الموجة التي مازالت تصحبه، ولا يعود مرة أخرى، ولكي يحدث نمط التداخل مجددًا لابّد من عودة هذا القسم المفقود من الموجة ليتداخل مع القسم المصاحب للجسيم.
أين يذهب ولماذا يذهب للأبد ولا يعود مرة أخرى؟ يتداخل هذا الجزء مع موجة الجسيمات التي تكوّن العالم الكبير، تحتوي أداة القياس على أعداد مهولة من الجسيمات التي تصحبها موجات أخرى والتي ستتداخل مع القسم من موجتنا المفقود.
يحتوي العالم الكبير على أعداد مهولة من المسارات التي سينتشر فيها القسم المفقود من الموجة ويتشتت، وبالتالي تصبح عودة هذا الجزء المفقود من الموجة كاملاً لمسار بعينه (المسار الذي يحتوي على الجسيم والجزء الآخر من الموجة) صعب جدا ذات احتمالية تقترب من الصفر كلما زاد عدد الجسيمات المكونة لأداة القياس، لقد ضل جزء الموجة عن الجزء الآخر المصاحب للجسيم، وأصبح جسيمنا تحت الرصد محكوما بحركة جزءٍ من موجته فقط والتي ستدفعه ليظهر في نطاق محدد وبالتالي لا يُظهر الجسيم نمط تداخل.
بالمقابل، لن نستطيع في ميكانيكا الكم المعتمدة أن نقول أنه حصل إمتصاص للموجة مثل ميكانيكا بوم، لأنه في ميكانيكا الكم لو ما يحصل هو امتصاص للموجة فمن أين إذًا جاء الجسيم الذي نرصده؟
في ميكانيكا الكم لا توجد جسيمات تصاحبها موجات معًا كما في ميكانيكا بوم وإنما ما لدينا هنا إما جسيمات وإما موجات تنهار بفعل القياس أو الرصد لتصبح جسيمات مجددًا، لكن في ميكانيكا بوم فالجسيمات موجودة أصلًا قبل وبعد امتصاص جزء من موجته.
المصادر: هنا
Making sense of quantum mechanics, Jean Bricmont.
تدقيق: ناصر طارق.