يأخذ معظم الناس ضوء النهار و عتمة الليل كأمر بديهي راجع لوجود الشمس أو عدمه. لكن إذا علمنا أن شمسنا هي واحدة من ملايين الترليونات من النجوم في هذا الكون، سيكون من الطبيعي طرح السؤال التالي: لماذا السماء مظلمة ليلا؟
سنة 1826، نشر الفلكي الألماني هينريك أولبرز (H.W. Olbers) ورقة بحثية تساءل فيها عن سبب كون السماء مظلمة في الليل (يجدر التنويه إلى أن أول من طرح هذا التساؤل هو الفلكي الانجليزي ثوماس ديغاز (T. Digges)). فعلا، ففي كون لا متناه مليء بالنجوم، و بالنسبة لعيوننا التي لا تبصر إلا الضوء الواقع في المجال المرئي، لماذا السماء ليلا مظلمة بدل أن تكون متوهجة بأضواء كل تلك الأعداد الهائلة من النجوم، خاصة إذا علمنا أن حسابات رياضية بسيطة بينت أن شدة الضوء النجمي في الليل يجب أن لا تقل كثيرا عن النهار.
لكن مع تعمق فهمنا للكون أكثر في القرن العشرين، تبين أن هنالك العديد من العوامل التي قد تكون قادت إلى هذه المفارقة:
أولى هذه الأسباب، أن مسار الضوء الآتي من النجوم قد يتم اعتراضه من طرف المادة بين النجمية مثل الغبار، السدم، الصخور …الخ، وهو ما يمنع وصوله إلينا بشكل كامل. لكن وفق قوانين الديناميكا الحرارية، تعرض المادة بين النجمية لهذا الضوء سيجعلها تسخن إلى أن تصبح بنفس درجة حرارة سطح هذه النجوم بعد مدة زمنية. و من ثم، ستصدر هذه المادة أي ضوء تمتصه من تلك النجوم، و هذا سيعيدنا إلى المربع الأول.
السبب الثاني هو الافتراض بأن الكون لانهائي في الفضاء (الحجم)، هذا الأخير الذي من شأنه أن يكون خاطئا. فإذا كان نصف قطر الكون يمتد لمسافة عظمى و لكن محدودة، فإن عدد النجوم التي ستساهم في إضاءة السماء ليلا سيكون محدودا هو الآخر. نفس الشيء قد يحدث لو أن الكون لا منته في الحجم، لكنه بعد مسافة معينة يصبح خال من النجوم.
هنالك سبب ثالث، لكنه يتعلق هذه المرة بالزمن و ليس الفضاء، إنه أزلية الكون، وهو افتراض تبين خطأه فيما بعد. إذ يقدر عمر الكون بحوالي 13.8 مليار سنة. بما أن سرعة الضوء محدودة، فإننا كلما نظرنا بعيدا في الفضاء، نحن ننظر بعيدا في الزمان. لذلك مثلا، نحن نرى الشمس كما كانت قبل حوالي 8.3 دقائق، كذلك نرى بروكسيما سنتوري، و هو النجم الأقرب إلينا، كما كان قبل 4 سنوات، نرى مجرة أندروميدا، وهي الأقرب إلينا، كما كانت قبل مليوني سنة. و بالتالي فإن أبعد شيء نستطيع رؤيته، سنراه كما كان قبل 13.8 مليار سنة، هذا يعني ببساطة أننا لن نستطيع رؤية كل النجوم. سنرى فقط ضوء النجوم التي هي قريبة كفاية منا، بحيث يسافر الضوء منها لمدة لا تزيد عن 13.8 مليار سنة. أما النجوم الأبعد، فلن نستطيع رؤيتها إلا في المستقبل.
السبب الرابع، هو افتراض أن هندسة الفضاء إقليدية بسيطة. هذا كان متوقعا من علماء القرن التاسع عشر و ما قبله مثل أولبرز و ديغاز. لكن بحلول القرن العشرين، مع اكتشاف النظرية النسبية لأينشتاين ثم اكتشاف توسع الكون من طرف هابل، حيث اتضح أن هندسة الكون ديناميكية، تتغير مع الزمن وليست اقليدية بسيطة. فلقد تبين أن كل المسافات في الكون آخذة في التوسع، لذلك رأى هابل أن المجرات تظهر و كأنها تبتعد عن بعضها. لكن هذا يحدث على السلم الكبير في الكون فقط، لذلك لا ينبغي أن يتوقع القارئ أن يزداد طوله مثلا بسبب توسع الكون. لكن التوسع يمس حتى طول موجة الضوء الذي يسافر نحونا في الفضاء الشاسع فيزداد مع مرور الزمن. بلغة الطاقة و السطوع، هذا يعني أنه كلما سافر الضوء أكثر، كلما ضعفت طاقته و أصبح خافتا أكثر.
يتضح إذن، أن الاعتقاد الذي كان سائدا بأن الكون أزلي، لا نهائي، ذو هندسة إقليدية هو ما قاد ديغاز و أسلافه الفلكيين إلى هذه المفارقة، لكن يعتقد العلماء أن السبب الأكثر تأثيرا من بين تلك العوامل هو عمر الكون المحدود. أي أن نشأته تعود إلى لحظة محددة في الماضي و أنه ليس أزليا، بعبارة أخرى، توجد هنالك مسافة فاصلة ما، حيث ضوء النجوم الواقعة بعدها لم يصلنا بعد. هذه المسافة تسمى مسافة الأفق، أما رقعة الكون التي تقع ضمنها فتسمى الكون المرئي.
الطريف في كل هذا هو أن أول من اكتشف حل هذا اللغز هو الشاعر الأمريكي إدغار آلان بو (E.A. Poe) في عمله المسمى “يوريكا: قصيدة نثرية” و الذي نُشر سنة 1848، حيث يقول: ” في كون يحتوي على عدد لا نهائي من النجوم المتتالية، التفسير الوحيد لتلك البقع المظلمة التي تظهرها تيليسكوباتنا في عدد لا يحصى من الاتجاهات، هو بافتراض أن تلك الخلفية السوداء تقع على بعد سحيق لدرجة أنه لا ضوء منها قد استطاع بلوغنا بعد”.
المراجع:
.(Ryden, Introduction to Cosmology, Cambridge University Press (2002 –
.(Harrison, Darkness at Night, Harvard University Press (1987 –
تدقيق لغوي: زين العابدين لطرش