تحدثنا في الجُزء الأول عَن خَطأ أينشتاين، لكن مَا الذي دفعه للوُقوع في ذلك الخطأ؟ لمَاذا رفض أينشتاين التأثير الشبحي عن بعد؟
يقول الفرض الأساسي في النسبيّة أنّ: “قوانين الفيزياء متماثلة في جميع مَراجع الرصد”. وهذا الفرض لا يُمكن إنقاذه إلاّ باعتبار أنّ سُرعة الضوء هي أعلى سُرعة للسببيّة، ولنَعرف لمَاذا، لا بُد أن نعرف أولاً ما معنى ذلك الفرض؟
إنّ كلّ شخص لهُ منظور أو مرجع للرصد يختلف عن الآخر بحسب اختلاف السُرعات واتجاهات الحركة، يختلف منظور الآخرين لأنّ لهم مُعدل مرور زمن مختلف بحسب سرعاتهم، وبالتالي سيختلف جميع الراصدين حول توقيت حدث واحد، لكن ما هو التوقيت الحقيقي لذلك الحدث الواحد؟
تقول النسبية أنّه لَا وقت مطلق، فقط وقت نسبي وبناءََا على نسبيّة الوقت هذه فإنّ أَوقات الحَدث المختلفة لكل الراصدين صَحيحة ومُتماثلة، لا يوجد وقت حقيقي بإطلاق، ولفهم مَاذا يعني ذلك لنأخذ تلك المفارقة البسيطة:
مفارقة القطار والنفق:
تخيل أنّني أركب قطارًا يتحرك بسرعة ما تقترب من سرعة الضوء، ولنفترض أنّ طُول القطار 100 متر، يَقترب هَذا القطار من نفق طُوله أيضا 100 متر، للنفق بوابتان واحدة في بدايته والأُخرى في نهايته، يُمكنك أَنت إغلاق البوّابتين معًا من خلال غرفة التحكم خارج النفق وأَنت تَنظر للقطار.
هناك الآن منظوران للواقع، دعنا نتحدث عن منظورك أولًا:
أنت ترى نفسَك ساكنا في غُرفة التحكم الساكنة أيْضا عَلى الأرض الساكنة، لكنّك ترى القطار وكُلّ مَا بداخله يتجه نحو النفق، بسرعة تقترب من سرعة الضوء، وطبقا للنسبية سَترى أن طُول القطار قد انكمش إلى 80 متر، ولكن طول النفق سيظل ثابتا 100 متر لأنّ النفق ساكنًا بالنسبة لك، وبالتالي سيكون هناك بعض الوقت الصغير جدًا والذي يكون فيه القطار بالكامل داخل النفق كما بالشكل:
ومن منظوري:
سأرى نفسي ساكنًا في قطار ساكن، وسأَرى النفق وغرفة التحكم بما فيها أنت وكلّ شيء خارج القطار يتجه نحو القطار بسرعة تقترب من سرعة الضوء! ولذلك سأرى أن طول النفق قد انكمش إلى 80 مترًا. لكن طول القطار سيظل ثابتا (100 متر) لأنه ساكنًا بالنسبة لي، وهذا يعني أنّه لَن يَكُون هناك أي وقت يكون فيه القطار بالكامل دَاخل النفق!
كما بالشكل:
ستلعب أنت لُعبة بسيطة، بما أن القطار بالنسبة لك سيَكون بالكامل دَاخل النفق، فقد قررت أنّه لن يحدث أي شيء إن قمت بإغلاق بوابتيّ النفق معًا، وبسرعة بمجرد دخول القطار بالكامل، ثم فتحها مباشرةً.
بالفعل لن يحدث شيء إن قمت بعَمل هَذا من منظورك أنت، لأن طُول النفق أكبر من طُول القطار، وستنجح في إغلاق البوابات وفتحها بسرعة دون أن يصطدم القطار بأحد البوابات،
كما بالشكل:
لكن من منظوري أنا ماذا سيحدث؟ هل سيصطدم القطار بالبوّابات؟
طبقا للنسبيّة، فإنه بمُجرد دخولي النفق فإنّني أَصبحت أَبتعد عن البوابة التي عبرتها للتو، لكنّني أقترب من الأُخرى، ولذلك سيكون مُعدل مرور الزمن على البوّابة التي لم أعبرها أَسرع منه عند البوّابة الأولى التي عبرتها، وبالتالي سيدخل قطاري النفق، وقبل أن يَقترب القطار من البوابة في نهاية النفق بقليل من الوَقت، ستُغلق، لكن لن تُغلق التي عبرتها والقطار لم يعبر كله بعد، وحين تَقترب مقدمة القطار من نهاية النفق ستبدأ البوابة في نهاية النفق بالفتح قبل أن يحدث تصادم، ولن تُغلق البوّابة الأولى التي عبرتها إلا بعد خُروج الجُزء الزائد عن طول النفق من البوّابة التي في نهاية النفق، وذلك بعد عُبور القطار كاملا من البوابة التي عند بداية النفق الى الداخل.
كما بالشكل:
وهذا منطقي جدًا لأنّ اللحظة التي تمر عليك حين تقوم باغلاق البوابات وفتحها، تعادل أكثر من لحظة عندي، وبمعنى آخر، فإن زمنك مكثف فتُغلق فيه البوّابات متزامنة، لكنّ زمني ممطوط أو متباطيء بالنسبة لك، فتتوزع الأحداث المتزامنة عندك على ذلك الزمن المَمطوط عندي، فتبدو لي الأحداث المتزامنة عندك غَير متزامنة عندي، وذلك لأنّ مُعدل مُرور زمني أقل من معدل مرور زمنك بحكم فارق السرعات بيننا.
في المفارقة السابقة، نجد أن كلا المنظورين لنفس الحدث حقيقيّان ومُتماثلان، ولن نستطيع أن نقول أن أحدهم حقيقي والآخر ليس حقيقي، وذلك لأن قوانين الفيزياء تظل صحيحة ومتماثلة ونسبيّة في كل مراجع الرصد بالنسبة للمراجع الأخرى، لانه لم يحدث تصادم للقطار مع البوابات وجرى كل شيء بشكل طبيعي في مرجعي الرصد، وبطريقة لا تمكّن كل شخص في أي مرجع من اكتشاف أن منظور أي شخص في المرجع الآخر مختلف تماما، وبالتالي لا نستطيع أن نحدد من منّا الذي يتحرك، ومن منّا ساكنًا، فلا معنى مطلق أو ثابت للحركة أو السكون، لأنه في أفضل الأحوال لن نستطيع أن نحدد حركة شيء ما إلا بالنسبة لآخر، فلا معنى ولا أهمية سوى للحركة النسبيّة.
وبالتالي، ما يبدو كتزامن في غلق البوابتين وفتحهما معًا بالنسبة لك هو أيضا ليس تزامنًا بالنسبة لي أو بالنسبة لأيّ شخص آخر له سرعة مختلفة أو اتجاه حركة مختلف، وذلك لأن البوابتين لم يتم إغلاقهما معا بالنسبة لي في وقت واحد على عكس ما رأيت أنت من منظورك، لأن لي مرجعًا أو منظورًا مختلفًا، طبقًا لاتجاه الحركة ومقدار السرعة التي أتحرك بها، ويجب التأكيد على أنّ البوابتين تم إغلاقهما وفتحهما متزامنتين معًا بالنسبة لك، لأنّك أنت والبوَابتيْن ساكنيْن بالنسبة لبَعضكما البعض أي أنّك أنت والبوابات في مرجع ثابت “Rest frame”. ما يَعنينا من هذا كله، أن التزامن كمفهوم لا يحدث إلا في “Rest frame”، ولا يوجد “Frame”مفضّل في النسبيّة، لأنّ كلّ المراجع مُتماثلة وقوانين الفيزياء تظل تعمل كما رَأينا، وبالتالي فالتزامن في النسبية لا أهمية له. وبناءًا على ذلك لم يحتاج أينشتاين فرضية الأثير كمرجع مطلق السكون أو ساكن بالنسبة لكل شيئ (Absolute rest frame) لتفسير حركة الأجسام.
ولكي تعمل تلك النسبيّة وتظل “قوانين الفيزياء متماثلة في جميع مَراجع الرصد”، يجب أن تكون أعلى سرعة للسببيّة هي سُرعة الضوء حتى لا تظهر أن بعض النتائج تحدث قبل الأسباب في بعض مراجع الرصد، لأنه إن كان السبب يُؤثّر في شيء آخر بسرعة أعلى من سرعة الضوء فإنّه بالنسبة لبَعض المَراجع مثل التي يوجد فيها القطار، سيكون معدل مرور الزمن على السبب أسرع منه على النتيجة، فتبدو النتيجة تحدث قبل السبب في تلك المراجع، لكن هل حقا أعلى سرعة للسببية هي سرعة الضوء؟
سنرى في الجزء الثالث كيف أثبت جون ستيوارت بيل نظريًا أن ميكانيكا الكم تسمح بتأثير سببي أسرع من الضوء، حيث وضع اختبارًا تجريبيًا لتَأكيد ذلك، يحدث هذا التأثير في التشابك الكمومي، وقد سمّاه أينشتاين من قبل بـ “التأثير الشبحي عن بعد”، وطبقًا للنسبيّة فهذا يَعني أنّ هناك بعض المراجع التي ستظهر فيها النّتائج تحدث قبل الأسباب! وبالتالي سيَنعكس اتجاه السببية واتجاه سهم الزمن الكوني والأنتروبيا في تلك المراجع، ولنفهم كيف ستحدث النتيجة قبل السبب، سنكون بحاجة لنُغيّر من المفارقة السابقة قليلًا.
سهم الزمن:
اولًا لننقل غرفة التحكم بالقرب من البوابة التي في بداية النفق، وسنلغي تلك البوابة، أي سيكون لدينا بوابة واحدة فقط وهي التي في نهاية النفق، ثانياً سنغير نظام التحكم في تلك البوابة، فبدلا من أن تأخد البوابة أمر الفتح من خلال الاشارات الكهربية التي تنتقل من غرفة التحكم الى البوابة بسرعة أقل من سرعة الضوء، ستفتح من خلال تغيير الحالة الكمومية لجسيم متصل بها وبجانبها مباشرة، هذا الجسيم متشابك كموميا مع جسيم آخر في الجهة الأخرى في غرفة التحكم التي في بداية النفق، عند قيامك بإجراء أيّ قياس على جسيم التحكم عند بداية النفق، طبقا للتشابك الكمومي فسيكون قياسك هو السبب في تغيير الحالة الكمومية لجسيم البوابة عند نهاية النفق، مما يسبب فتحها، وهذا القياس ينتقل تأثيره “آنيا” وبدون أي تأخير زمني، أي أن تأثير قياسك سينتقل بأسرع من الضوء لانه يعتمد على التشابك الكمومي، مما يسبب فتح البوابة في نفس وقت اجراء القياس.
وبدلًا من أن تقوم أنت بإغلاق البوابات وفتحها في المفارقة السابقة، ستقوم بإجراء قياس على جسيم التحكم في نفس التوقيت الذي كنت تغلق وتفتح فيه البوابات، وبالتالي:
من منظورك أنت لا شيء غريب فإنه تقريبا في نفس وقت إجراءك للقياس (السبب) ستفتح البوابة (النتيجة)، وهذا يعني أن السبب والنتيجة سيحدثان متزامنين تقريبا بالنسة لك، وهذا تقريبًا نفس ما حدث للبوّابات في المرة السابقة بالنسبة لك فقد أغلقوا معًا وفتحوا معًا، لكن من مَنظوري أنا في القطار، سأرى البوابة تفتح (النتيجة) أولا بيْنما أنت لم تقم بالقياس (السبب) بعد! وهذا نفسه ما حدث للبوّابات بالنسبة لي في المرة السابقة، فقد أُغلقت وفُتحت البوابة في نهاية النفق أولا ثم تلتها الأخرى بعد عبور القطار منها بشكل كامل، ماذا يعني هذا؟ النتيجة حدثت قبل السبب!
لم يكن هناك مشكلة بالنسبة لي في المرة السابقة حينما أُغلقت وفُتحت البوابة في نهاية النفق، وذلك لأنه لم يكن هناك تأثير سببي أسرع من الضوء بين البوابتين، أقصد ان فتح واحدة لم يكن سبب لفتح الأخرى، لكن في هذه المرة فإن اجراء القياس في غرفة التحكم في بداية النفق له تأثير سببي اسرع من الضوء على حالة البوابة في نهاية النفق، وهذا سيجعلني في القطار أرى فتح البوابة (النتيجة التي لم تحدث بالنسبة لك) كسبب لنتيجة ستحدث بعد ذلك وهي اجراءك انت للقياس في غرفة التحكم (والذي تعتبره انت السبب في فتح البوابة)، وبالتالي حينما نقول أن البوابة قد فتحت، لتقوم أنت بفتحها بعد ذلك من خلال اجرءا القياس! فسنشك في قوانين الفيزياء، ماذا يعني ان نقول ان البوابة قد فتحت لتقوم انت بفتحها!
يعني أن قوانين الفيزياء التي كنّا نعتبرها صحيحة ومتماثلة ونسبية في كل مراجع الرصد بالنسبة لبعضها بطريقة لا تُمكّن كل شخص في أيّ مرجع من اكتشاف أن منظور أي شخص في المراجع الأخرى مختلف تمامًا، ستكون خاطئة في كل مراجع الرصد وبطريقة لا تمكّن الراصدين من معرفة أنّ قوانينهم خطأ، وبالتالي ستكون كل الحسابات النسبيّة التي يقومون بحسابها بالقوانين النسبيّة خاطئة، وسيكون هناك مرجع واحد فقط ستكون فيه القوانين صحيحة صحة مطلقة، وليست نسبيّة، وبالتالي من في هذا المرجع فقط يستطيع وحده أن يحسب الحسابات الحقيقية بشكل مطلق، لن يكون الكون نسبيًا حتى النخاع كما في فرض النسبية الأساسي، وستكون هناك مراجع تحدث فيها النتائج قبل الأسباب وهذا يعني أن السببية قد عكست اتجاهها في هذه المراجع، وهذا ما حدث في حالة استخدام الجسيمات المتشابكة للتحكم في البوابة، مما يعني أن قوانين الفيزياء لن تكون خطأً فقط في كل المراجع عدا واحد فقط، بل ستكون معكوسة تماما في بعضها، وهذا كله بسبب مبدأ النسبية، لهذا رفض أينشتاين التأثير السببي الاسرع من الضوء، او التأثير الشبحي عن بعد، حتى ينقذ قوانين الفيزياء وخاصة مبدأه في النسبية.
العرش:
يسمي بيل ذلك المرجع الساكن سكونا مطلقا (Absolute Rest frame)، الذي ستكون فيه القوانين صحيحة صحة مطلقة وليست نسبية بالعرش، لأن هذا المرجع الوَحيد الذي بإمكانك أن ترى فيه الحقيقة المُطلقة، ولا يمكن ذلك للأشخاص الذين في المراجع الأخرى، ولن يعرفوا ما يحدث من منظورك، فلن يروا الحقيقة المطلقة، وبالتالي فهناك مرجع أفضل من الآخر في رؤية الحقيقة، يقول أينشتاين: “ما دمنا غير قادرين على إكتشاف ذلك المرجع فهو ليس موجود، وما موجود هي المراجع النسبيّة فقط”، لكنّ ميكانيكا الكم تسمح لنا على الاقل بالتأكد من وجود ذلك المرجع وتأبى أنّ تكون النسبيّة أَساسية في الكون ولو كره الكلاسيكيّون.
الخلاصة:
تقول النسبيّة أن كل الوقت نسبي، وزمنك غير زمني وسيرصد كل منّا نفس الحدث في وقت مختلف عن الآخر وبالتالي لا أفضليّة لحدثين متزامنين كحالة أَساسيّة في الطبيعة، أثبت بيل وجود أحداث ثُنائية مُتزامنة آنيًا في ميكانيكا الكم ومهما كانت المسافة بينهم، ولا تحدث الأحداث المتزامنة غير في مرجع قصوري غير متحرك بالنسبة لكل شيء، وهذا يعني أن هذا المرجع الساكن سكونًا مطلقًا موجود ومفضل لدى الطبيعة على المُستوى الكمومي، وبمعنى أدق:
إن قياس جسيم في التشابك الكُمومي يُؤثر على الجسيم الآخر في نَفس الوَقت، مما يعني أنّ هناك تَزامنا بَينهم. ولا يحدث التزامن إلا في”Rest frame”، وهذا يعني أن للجسيمات Rest frame (مثل الأثير) مفضّل على المستوى الكمومي، لكن الكلاسيكييّن يفضّلون كَوْنا نسبيًا حتى النخاع، بدون أيّ Frame مفضّل.
عرضنا في الجُزأَين اعتراض أينشتاين على ميكانيكا الكم من جانب واحد فقط وهو اللّامحلية في ميكانيكا الكم (Quantum non-locality)، وهذا الجانب يشمل التأثير السببي الأسرع من الضوء فقط، وهناك جانب آخر أيضًا من جوانب ميكانيكا الكم اعترض عليه أيشتاين، وهو أنّها ليست واقعية أو لا تصف واقع موضوعي أو واقعي أو حقيقي لحركة ومواضع الجسيمات، وفي هذا المقال نعرض ذلك الجانب.
كيف أثبت بيل أن التأثير الشبحي حقيقة؟ هذا ما نعرضه في الجزء الثالث.
المصادر: هنا هنا هنا هنا هنا هنا – Making sense of QM.