Site icon الباحثون الجزائريون – Algerian Researchers

كيف أثبت بيل حقيقة التأثير الشبحي عن بعد؟ (الجزء الثالث)

أَثبت جون ستيوارت بيل أنّ أيّ نظرية لميكانيكا الكم ستكون لا محليّة أي أنه توجد تأثيرات سببية أسرع من الضوء، كيف حسم حقيقة التأثير الشبحي عن بعد؟


اللف المغزلي (Spin):

“EPRB” ورقة علمية عدّل فيها ديفيد بوم على الورقة العلمية “EPR” التي قدمها كل من أينشتاين وروزن وبولدسكاي والتي شرحناها بالتفصيل في الجزء الاول، بحيث استخدم جسيمين بدلًا من جسيم واحد، وإستخدم اللف المغزلي (Spin) للجسيمين بدلًا من موقع الجسيم، لا يهمنا هنا ماهية اللف المغزلي، ما يهمنا أنه خاصية للجسيمات، هذه الخاصيّة لها مركّبة مُتجَهة على محاور الفراغ، بحيث يكون اتجاه مركّبة اللف المغزلي لأعلى أو لأسفل على كل محور، وسنستخدم فقط المحور X والمحور Y، أي أنّ اللف المغزلي على المحور X قد يكون اتجاهه لأعلى أو لأسفل، وهذا يَنطبق أيضا على باقي المحاور ومنهم المحور Y.

سنحتاج معرفة حقيقة أخرى بخصوص اللف المغزلي، حينما نقوم بقياس اتجاه مركبة اللف المغزلي على محور معين لأول مرة، يتحدد الاتجاه بطريقة احتمالية، عشوائيّة تمامًا ولا يمكن التنبؤ به على أيّ أساس غير إحتمالي، أي أنّ إتجاه المركبة سواءً لأعلى أو لأسفل يتحدد بطريقة احتمالية لأوّل مرة فقط، أي أنّنا سنجد الاتجاه بنسبة خمسون بالمائة في الاتجاه لأعلى وخمسون بالمئة في الإتجاه لأسفل، لكن بمجرد أنْ تم قياس مركّبة اللف المغزلي أول مرة، فإنها تستقر على الاتجاه الذي وجدناها عليه، بحيث لو قمنا بقياسها عدّة مرّات بعد ذلك بوقت قصير أو طويل سنجدها على ذلك الإتجاه، فمثلًا إن قمنا بقياس إتجاه المركبة في اتجاه المحور X ووجدناه لأعلى، تظل المركبة على هذا الاتجاه بحيث إن قمنا بقياسها بعد ذلك في أيّ وقت سنجدها على نفس الاتجاه وهو لأعلى، لكن بشرط عدم حدوث أيّ تفاعل للدالة الموجيّة مع المؤثرات الخارجيّة الأخرى، وكل هذا ينطبق على كل المحاور.

طبقًا لورقة ديفيد بوم، لدينا الآن جسيمين تحكمهم دالة موجيّة واحدة، تفصلهما عن بعض مسافة كبيرة، لنقل أنّ أحدهما على القمر، حينما نقيس اتجاه مركبة اللّف المغزلي على المحور X للجسيم الأول، ستكون دائمًا عكس إتجاه مركبة اللف المغزلي في اتجاه المحور X للجسيم الثاني، بحيث دائمًا يكون اتجاه اللف المغزلي للجسيم الأول لأعلى وللجسيم الثاني لأسفل، أو العكس للجسيم الأول لأسفل وللجسيم الثاني لأعلى، نستنتج من العلاقة العكسية دائمًا بين اتجاهات مركبات اللف المغزلي أن أحد الاحتمالات التالية صحيح:

الأول: أن قياس اتجاه اللف المغزلي للجسيم الأول يؤثر آنيا في اتجاه اللف المغزلي للجسيم الثاني، ومهما كانت المسافة بينهما كبيرة، وهذا يتطلب تأثير سببي أسرع من الضوء.

والثاني: أن الجسيمان يتفقان معًا بحيث يكون لكل واحد منهما اتجاه لف مغزلي مختلف عن الآخر عند إجراء القياس.

وهذا الاتفاق بينهما لأنه أصلًا كان يحكمهما دالة موجيّة واحدة، اقترح دي برولي هذا الاحتمال، وتبناه أغلب الفيزيائيين بما فيهم أينشتاين لعدم قبولهم بالاحتمال الأول، لأن النسبية قد اقتربت من أن تكون عقيدة الفيزيائييّن وقتها، والنسبية تحرّم أي تأثير سببي أسرع من الضوء، كما رأينا في الجزء الثاني.

وإذا كانا الجسيمان يتفقان معا بحيث يكون لكل منهما اتجاه عكس الآخر لمركبة اللف المغزلي، فهذا يعني أنّ هناك شيء على أساسه يُحدد الجسيمان أي منهما يأخذ اتجاه ما، والآخر الاتجاه العكسي، وهذا الشيء غير موجود في ميكانيكا الكم المعتمدة ولذلك هي تفشل في معرفة أي منهما قد يتخذ إتجاه معيّن قبل القياس، مما جعل أينشتاين يؤكد أنّ ميكانيكا الكم غير مكتملة، فشجع أينشتاين ديفيد بوم على عمل صياغة مكتملة لميكانيكا الكم، قام بوم بعمل نظريّة مكتملة وتصف واقع موضوعي وتكون قيم كل خاصية للجسيمات فيها حتمية ومحددة وسببية، وهذا كله على عكس ميكانيكا الكم المعتمدة، لكن نظرية بوم كانت لا محلية صراحة، أي أنّ التأثير السببي الأسرع من الضوء واضح فيها وأساسي، وليس متضمنًا بين ثنايا النظريّة مثلما سنستنتح ذلك من ميكانيكا الكم المعتمدة، عرض بوم نظريته على أينشتاين فأعترض على اللّامحلية الصريحة فيها، وتبعه في ذلك أغلب الفيزيائيين وهذا بسبب النسبيّة وللأسباب التي ذكرناها في الجزء الثاني، سبّبت نظرية بوم جدلًا واسعًا وسوء فهم حتّى أتى جون ستيوارت بيل.

نظرية بيل:

مثل أينشتاين، تفاجأ بيل من صراحة اللامحلية في نظرية بوم وقرر إثبات أن كوننا محلي، بمعني أنّه لا توجد تأثيرات سببية أسرع من الضوء، ولا يتعارض مع النسبية، وهذا دعاه للمفاجأة الأكبر حيث وجد أن معادلات ميكانيكا الكم المعتمدة أيضا تقول أن كوننا لا محلي! وتتعارض مع النسبية، ماذا فعل بيل؟

بدلًا من أن نقيس مركبة اللّف المغزلي للجسيمين على نفس المحور كما في ورقة بوم، سنقيس مركبة اللف المغزلي على محاور مختلفة، فمثلا سنقيس اتجاه مركبة اللف المغزلي في اتجاه المحور X للجسيم الأول، ونقيس اتجاه مركبة اللف المغزلي في اتجاه المحور Y للجسيم الثاني، لكن لماذا يا بيل؟

طبقًا لمبدأ عدم التأكد لهايزنبرج، فإنّ قياس إتجاه مركبة اللف المغزلي في محور ما يُسبّب عدم تأكد في إتجاه مركبات اللف المغزلي للمحاور الأخرى لنفس الجسيمات التي تصفها نفس الدالة الموجيّة، وبالتالي:

إذا كان قياس إتجاه مركبات اللف المغزلي للجُسيم الأول يُسبّب عدم تأكد في إتجاه مركبات اللف المغزلي للجسيم الآخر البعيد، فحتمًا لأنّ الدالة الموجية لها تأثير سببي أسرع من الضوء، لا يمكن أن يحدث عدم التأكد هذا لو أنّ الجسيمات تتفق معًا على إتجاهات معكوسة لمركبات اللف المغزلي، ففي حالة كان الجسيمان متفقان معًا، فمبدأ عدم التأكد سيُفسد هذا الاتفاق بينهما في حالة قياسك لاتجاه مركبات اللف المغزلي على محاور مختلفة.

 

النتيجة:

إذا كانت معادلات ميكانيكا الكم المعتمدة، تؤكد أن قياس اتجاه مركبة اللف المغزلي في اتجاه ما يُسبّب عدم تأكد في قياس اتجاه مركبات اللف المغزلي للمحاور الآخرى للجسيمات التي تصفهم دالة موجيّة واحدة، فهذا يعني أَنها أيضا لا محلية، وبشكل صريح من خلال مبدأ عدم التأكد، بالإضافة لمبدأ انهيار الدالة الموجيّة الآني أثناء القياس لكن هذا موضوع آخر قد نتطرق له في مقال منفصل، وهذا يعني أنّ أي نظرية لميكانيكا الكم لا تتعارض مع نتائج التجارب حتمًا ستكون لامحلية. وبالتالي فالتأثير السببي الأسرع من الضوء خاصية أساسيّة في الطبيعة.

اعترض “أينشتاين” على ميكانيكا الكم من جهتين، أوّلهما التأثير السببي الأسرع من الضوء، وهذا سبب اعتراضه أيضاً على ميكانيكا “بوم” لانها لامحلية صراحة، وهنا تدخل “بيل” ليُثبت خطأ “أينشتاين”، حيث أثبت كما رأينا أن الطبيعة لامحلية على المُستوى الكمومي، وفي هذا انتصار لكل من ميكانيكا الكم وميكانيكا “بوم” على “أينشتاين”، بالعادة يسوّق الأغلبية أن نظرية “بيل” تُثبتُ خطأ كل النظريات التي تفسر العالم الكمومي لصالح ميكانيكا الكم المعيارية، وفي هذا اختزال مُجحف لما تقوله نظرية “بيل”

إن أغلب الفيزيائيين قد إعتبروا أنّ الدالة الموجيّة معرفية، لكن بما أنّ لها تأثير سببي من المستحيل أن تكون معرفية بل حتمًا ستكون حقيقية كما رأينا في الجزء الأول، الدالة الموجيّة في ميكانيكا بوم حقيقية، وأيضا اعتبر أغلب الفيزيائيين أن العشوائية في ميكانيكا الكم حقيقية أي أنها خاصية أساسية في الطبيعة، لكن العشوائيّة في ميكانيكا بوم معرفيّة أي أنّ القيم الاحتمالية الناتجة من مبدأ عدم التأكد في ميكانيكا الكم تكون نتيجة لجهلنا بمعلومات النظام الكمومي وليست خاصية أساسية في الطبيعة ولهذا الموضوع خصصنا مقالًا منفصلًا.

المصادر: هنا هنا هنا هنا هنا هنا Making sense of QM.

تدقيق: لمونس جمانة.

 

Exit mobile version