كلّنا استمتعنا باللّقاء الأوّل بين هولمز وصديقه واطسون، حين أدرك من خلال هيئته أنّه طبيب عسكري، ومن لون بشرته أنّه كان في منطقة مدارية، ومن إصابته استنتج أنها كانت منطقة حرب؛ هذه المعطيات جعلته يجزم أنّ واطسون كان طبيبا عسكريّا يعمل في أفغانستان. لكن لنفكّر منطقيًّا، لم يكن واطسون يرتدي ثيابًا عسكريّة أو طبّية، فكيف حكم هولمز عليه أنّه طبيب عسكري، كما أنّ هناك العديد من المناطق المداريّة الخاضعة لبريطانيا آنذاك، فلماذا أفغانستان بالذات؟ أمّا الإصابة فقد تكون لمليون سبب. باختصار، طريقة هولمز تتجلى في اختلاق القصص الأكثر ثقة، من التّلميحات الأكثر غموضا، فهو يقبض على تفسير من مئة تفسير مختلف، ثمّ يصرّ بعناد على أنّه التّفسير الصّحيح؛ لذلك، فلو زاول هولمز عمله كمحقّق في العالم الحقيقيّ، لاِفتقر إلى الكفاءة الحقّة. في كتابه: The Storytelling Animal، يبيّن “جونثان غوتشل” أنّ داخل كلّ منّا “شارلوك هولمز” صغيرًا تكون مهمّته التّفكير منطقيًّا بما يمكن ملاحظته، فقد منحنا التّطوّر “هولمز داخليّا” لأنّ العالم حافل بالحكايات (مكائد، دسائس، تحالفات …)، ليساعدنا على فهم هذه الأشياء؛ هذا ما يفسّر لنا سرّ إعجابنا بالأدب، بما يتضمنّه من حكايات. لماذا هذه المليارات التي تنفق في السينما؟ لماذا ونحن صغار كنّا نحبّ سماع حكايات الجدة؟ ببساطة، الأدب يقدم لنا أحاسيس لا يتعيّن علينا دفع ثمنها، فهو يسمح لنا أن نحب ونكره ونأمل دون أيّ خطر تحمله هذه المشاعر عادة، وهذا لا يتوقّف على الشّعور فقط، بل على المعايشة والتّجربة والتّعاطف. ولكي تفهم ذلك، فلتقم بالتّجربة البسيطة التالية: في حضور شخص أمامك، اُنظر إليه ثم ابتسم دون أن تقول شيئا، ستلاحظ أنّه سيبتسم رغم أنّه لا يفهم سبب ابتسامتك؛ هذا الأثر الذي يجعلنا نحاكي تصرّفات الغير، ناتج عن مجموعة من الخلايا في الفصّ الأماميّ من أدمغتنا، اُكتُشِفت في التّسعينات، تسمّى الخلايا المِرآتية، هذه الخلايا تجعلنا نختبر مشاعر وأفكار أبطال قصصنا حرفيٍّا،وهذا يعني أنّها بمثابة تدريب لنا على المواقف التي من الممكن أن نواجهها؛ لذلك فإنّك تنكمش على نحو دفاعيّ في أفلام الرّعب حين تتمّ مهاجمة الضّحية، بينما قد تتحرّك من مقعدك قليلًا حين يتعارك البطل مع خصمه، وسيشعّ عقلك بمشاهدة الإباحيّات وكأنّك تمارس الجنس. يبدو أنّ لـ”هولمز الداخليّ” تأثيرًا أكبر من مجرّد زرع عشق الأدب فينا، بل يتدخّل في تشكيل مجتمعاتنا وبناء عاداتنا، وهو ما نلاحظه في الدّين. فالدّين هو التّعبير المطلق لسيطرة القصّة على عقولنا، والمؤمنون لا يمارسون حياتهم بناءً على حقائق وأمور اكتشفوها، بل على قصص مقدّسة سمعوها. إذ نجد قصصا لكلّ شيء، قصص الخلق والأكل والاغتسال وغير ذلك… لهذا ورغم فائدة “هولمز الداخلي”، إلّا أنّه قد يكون أخرقًا أحيانا لأنّه حسّاس للعشوائية والصدفة ومدمن على المعنى، فحين لا يستطيع تأليف قصة حقيقيّة سيختلق الأكاذيب، بل إنّه السّبب في حالات الطّلاق التي يكون فيها الزّوج قد اكتشف من حركات معينة، أنَّ زوجته تخونه، محاولًا بذلك خلق معنى لفقدان الثّقة الذي يعيشه؛ وهو السّبب في نظريّات المؤامرة الّتي يقوم فيها الشّخص باقتطاع شذرات من خطاب لرئيس أو صورة من فيلم، ليكشف بذلك مخطّطا جهنّميا يستهدف بلده أو يستهدف الإنسانية، ولعلّ هذا يكشف قليلا عن تلك العلاقة المعروفة بين الإبداع الفنّيّ والمرض العقلي الذي يختلق فيه المصاب قصصًا، ففي كتابها “Touched With Fire” وجدت “ردفليد جاميسون” عند دراستها السّير الذّاتيّة لعدّة أدباء، أنّ مرض ثنائيّ القطب ينتشر بينهم عشر مرات أكثر من النّاس العاديّين، ويكفي أنّ نهر “أوز” لا يزال شاهدا على “فرجينيا وولف” حين دخلته بعدما ملأت جيوبها بالصّخور.
المصدر :
Jonthan Gottshall (2012), The Storytelling Animal: How Stories Make Us Human, Houghton Mifflin Harcourt, NEW York, USA
تدقيق لغوي: سلمى بوقرعة.