كانت بعض الدول فقيرة في القرن التاسع عشر، ثم في القرن العشرين قد اتبعت استراتيجيَّة قياسيَّة للتنمية والتحقت بركب الدول المتقدمة، وتعتبر أمريكا الشمالية مثالا حيًّا على ذلك، ونعلم أنَّه تم اكتشاف الأمريكتين واستعمارهما واستغلال ثرواتهما من طرف الأوربيين لكن يبقى السؤال: لماذا حققت امريكا الشمالية التقدم و تخلفت الجنوبية عنها؟
لفهم سبب الاختلاف يجب أولا أن نُسلِّط الضوء على اقتصاد القارتين أثناء الاستعمار وبعد الاستقلال، حيث كان وصول الأوروبيين إلى الأمريكتين بمثابة الكارثة بالنسبة للسكان الأصليين، كان يبلغ تعداد السكان الأصليين وفق أحد التقديرات المتوسطة حوالي 57 مليون نسمة في عام1500م ، وبحلول عام 1750م ، انخفض تعدادهم إلى 5 ملايين نسمة، ويرجع ذلك الى ظهور الأمراض مثل الجدري والحصبة والأنفلونزا والتيفوس، التي لم يكن لدى السكان الأصليين أي مناعة ضدها، أما الأسباب الأخرى فتتمثل في الحروب والاستعباد والمعاملة السيئة من قبل المستوطنين.
اقتصاد المستعمرات في امريكا الشمالية:
كان دافع بعض المستوطنين يتمثل في رغبتهم في إقامة حكم ديني خاص بهم بدلًا من الانصياع إلى هيمنة عقيدة أخرى، ولكن الحافز الرئيسي لمعظم المستوطنين كان الكسب الاقتصادي؛ بل وكان البيوريتانيون يتوقعون تحقيق مستوى المعيشة نفسه الذي وصلوا إليه في إنجلترا، فكانت كندا تعمل على تصدير السلع الأساسية المتمثلة في سمك القد، الفراء والأخشاب إلى أوروبا، بينما تستورد السلع الأخرى كالأواني والأدوات من بريطانيا.
تميزت مُستعمرات السلع الأساسية بثلاث خصائص:
– أولًا: كان سعر السلعة الأساسية في المستعمرة أقل من سعرها في أوروبا بمقدار يساوي تكلفة النقل، وكانت الأسعار في السوقين ترتفع وتنخفض معًا حيث أنَّ التجارة كانت تربط بينهما.
– ثانيًا: كانت الصادرات تشكل جزءًا كبيرًا من دخل المستعمرات، فيما كان باقي دخلها يأتي من خدمات الدعم.
– ثالثًا: تخطَّتْ عائدات المستوطنين ورءوس أموالهم في المستعمرات العائدات في أوروبا بهامشٍ يغطي تكاليف ومخاطر الانتقال إلى المستعمرات.
في المقابل كانت مستعمرات الكاريبي تزرع السكر والمحاصيل الأخرى كالبن، ثم تصدِّر إنتاجها إلى أوروبا، وكان المستثمرون الأوروبيون يوفرون رأس المال اللازم، والعبيد الأفارقة يوفرون اليد العاملة اللازمة، حيث أثبت الأفارقة أنهم مصدر أرخص للأيدي العاملة من المهاجرين الأوربيين، كانت معدلات الوفيات في مزارع السكر مرتفعة للغاية، وكان سعر العبيد الجدد رخيصًا للغاية، بحيث كان يتم زيادة أعداد العبيد بشرائهم وليس من خلال الزيادة الطبيعة بالتناسل.
اقتصاد المستعمرات في أمريكا اللاتينية:
– البرازيل: يتألف التاريخ الاقتصادي للبرازيل في القرون الثلاثة الماضية من فترات ازدهار لسلع أساسية واحدة تلو الأخرى، من الذهب في أوائل القرن الثامن عشر، و البن (1840، 1930)، إلى المطاط 1950، وفي كل حالة كان يجري شحن أحد المنتجات إلى أوروبا، وجلب العبيد أو المستوطنين لزراعته، لكن كل هذه التجارة لم تنجح بسبب البعد عن أوروبا.
-المكسيك: لم يكن اقتصاد المكسيك يقوم على سلعة أساسية على غرار نموذج أمريكا الشمالية. في عام 1800م بلغت الصادرات 4٪ فقط من إجمالي الناتج المحلي، بل ولم يكن الاقتصاد المكسيكي في معظمه له صلة بالصادرات، لذا اتَّبع توزيع الدخل في المكسيك قوانين مختلفة عن القوانين في المستعمرات البريطانية، وفي أمريكا الشمالية كانت العمالة ورأس المال تنجذب إلى المستعمرة استجابةً للفرص التصديرية، وكانت العائدات تذهب إلى إنجلترا؛ حيث كان على المستعمرة المنافَسة لاجتذاب المستوطنين والاستثمارات. أما في المكسيك، كانت العوامل الداخلية هي التي تحدد الأجور، من خلال إجبار السكان الأصليين على العمل، وتحقيق التوازن بين الأراضي المتوفرة وحجم العمالة، وكفاءة الاقتصاد.
استقلال الولايات المتحدة الامريكية:
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الاستقلال عن بريطانيا في عام 1776، وأقرت الدستور في عام 1778 ، وانطلق الاقتصاد في الفترة التي سبقت الحرب الأهليَّة، فتضاعف تعداد السكان ثماني مرات، وتضاعف مستوى الدخل لكل فرد، وكان أساس الاقتصاد هو زراعة القطن، حيث ارتفع الطلب عليه في بريطانيا مع اندلاع الثورة الصناعية، وكان يُزرَع في جورجيا، لكنَّه لم يكن نشاطًا اقتصاديٍّا مربحًا حتى اخترع« إيلي ويتني »ماكينة حلج القطن في عام 1793، انتشرت الزراعة على إثر ذلك في الجنوب الأمريكي، وكان القطن يُزرَع في مزارع كبيرة يعمل فيها العبيد الذين زادت أعدادهم عن طريق تهجيرهم حتى حظر الكونجرس ذلك في عام 1808م، في نصف القرن التالي، ازدادت أعداد العبيد من خلال الزيادة الطبيعية بالتكاثر، وهو ما دعمه اقتصاديٍّا التوسع السريع في صناعة المنسوجات القطنية. وفي عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، كانت صناعة القطن صناعة شديدة الربحية، ولم تكن العبودية لتنتهي بدون الحرب الأهلية.
لم يقتصر التطور الأمريكي على صناعة المنسوجات القطنية فحسب؛ ففي عام1782 ، أنشأ أوليفر إيفانز مصنع الدقيق الآلي الأول. قبل القرن التاسع عشر، كانت آلية إطلاق النار في المسدسات والبنادق تُصمَّم وفق الطلب، وكان على صانع الأسلحة التوفيق بين المكونات المختلفة بغرض ضمان عمل آلية الإطلاق بسلاسة ، بيْدَ أن ذلك لم يكن ممكنًا على نطاق واسع حتى اختراع ماكينة التفريز حوالي عام1816، فصنَّعت مصانع الأسلحة التابعة للحكومة الأمريكية في سبرنجفيلد وهاربرز فيري في عشرينيات القرن التاسع عشر أجزاءً متبادلة بغرض استخدامها في البنادق، وأبهرت الأسلحة الأمريكية التي عُرِضت في معرض كريستال بالاس في عام 1751 البريطانيين.
استقلال امريكا اللاتينية:
أدى الاستقلال إلى عقود من الركود الاقتصادي التي تضرب بجذورها في معضلات المجتمع الاستعماري. كانت المنافسة الدولية المتزايدة تعيق القطاع الصناعي المكسيكي في نهاية القرن الثامن عشر، وكانت النتيجة هي الانصراف عن التصنيع، وانخفضت الأجور الحقيقية من قيمة بلغت ضعف الحد الأدنى من متطلبات الحياة في عام 1780م ، إلى قيمة الحد الأدنى في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وكان الإسهام المحلي في التقدم التكنولوجي ضئيلًا، حيث أنَّ المهندسين الأجانب كانوا يركِّبون الماكينات المصمَّمة في الخارج في المصانع، وهذا الغياب التكنولوجي كان يعني في نهاية المطاف عدم انتشار ثمار التنمية فيما وراء الصناعات التي تدعمها الدولة، بالإضافة إلى ذلك، لم تُوزَّع مكاسب النمو بصورة واسعة على الجميع.
سبب الاختلاف:
يعود الاختلاف بين الشمال الغني والجنوب الفقير إلى العوامل التالية:
-الجغرافيا: إن أمريكا الشمالية أقرب إلى أوروبا التي كانت السوق الرئيسية لصادرات المُستعمرات، ومع ارتفاع تكلفة النقل، كان سكان أمريكا الشمالية يستطيعون إنتاج وتصدير مجموعة أكبر من المنتجات بصورة مُربحة أكثر من سكان أمريكا الجنوبية، وقد دعمت الجغرافيا الداخلية للقارتين هذه الميزة؛ فكان الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية طويلًا وخصبًا بما يكفي لدعم اقتصاد كبير، في المقابل كانت معظم الأنشطة الاقتصادية في أمريكا اللاتينية تجري في أعماق المكسيك ومنطقة جبال الأنديز لم تصل الأنهار بين هذه الأقاليم والسواحل، ومن ثَمَّ كانت تكلفة التصدير مرتفعة.
-الديموغرافيا: لم يُهدِّد المناخ المعتدل الذي يُسيطر على معظم أنحاء الولايات المتحدة وكندا الأوروبيين بالأمراض، ومن ثَمَّ استقروا ونعموا بالرخاء في هذه المناطق، في المقابل أدَّت أمراض المناطق الاستوائية إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين الأوروبيين في مناطق الكاريبي والأمازون، وهو ما أدى إلى انخفاض نسبة نمو السكان الأوروبيين فيها.
-نظام الولايات المتحدة بعد الاستقلال قائم على حقوق الملكيَّة والمحاكم، وسلطات تشريعية وقضائية تحد من السلطة التنفيذية، والمساواة (باستثناء الجنوب)، والديمقراطية، وسياسات عدم التدخل في الاقتصاد (باستثناء التعريفات الجمركية)، أما مساوئ النظام المكسيكي فتشمل نظام الملكية الجماعية للسكان الأصليين للأراضي، وغياب المساواة الاجتماعية والعرقية، والنظام السياسي الذي رسَّخ أسوأ ملامح الإرث الاستعماري التي تتمثل في مجموعة من المحاكم تتضارب ولاياتها القضائية، ودولة تنظِّم الاقتصاد بتدخل مفرط، ونظام ضريبي غير فعَّال.
-حقَّقت مستعمرة نيو إنجلاند نسبة تقترب من 100٪ في معرفة القراءة والكتابة بين سكانها من الذكور خلال الفترة الاستعمارية عن طريق مدارس تمولها الدولة وفرض التعليم الاجباري ، في المقابل، لم يكن هناك توسُّع مماثل في التعليم في المكسيك قبل القرن العشرين.
المصدر: كتاب التاريخ الاقتصادي العالمي للبروفيسور روبرت سي الن ROBERT-C-ALLEN
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي