كانت الثورة الصناعية نقطة تحول في تاريخ العالم، وهي التي امتدت تقريبا من 1760م إلى 1850م، لكنها لم تكن حدثا مفاجئا مثلما يوحي اسمها، بل تطورت نتيجة تحولات اقتصادية سابقة، يُعتبر التقدم التكنولوجي محرك الثورة الصناعية، حيث ابتُكِرت العديد من الاختراعات المشهورة مثل المحرك البخاري وماكينات الغزل، وفي القرن التاسع عشر، وسَّع المهندسون تطبيق هذه الاختراعات والاكتشافات على كافة المجالات فظهرت القطارات والسفن البخارية، لكن يبقى السؤال المطروح لماذا ظهرت الثورة الصناعية في انجلترا وليس في هولندا أو فرنسا؟
السياق الثقافي والسياسي:
اندلعت الثورة الصناعية في سياق سياسي ثقافي مناسب للابتكار، حيث يعتبر الدستور البريطاني نموذجا لليبراليين الأوربيون وخبراء الاقتصاد في العصر الحديث( لكنه كان أبعد ما يكون عن الديمقراطية، إذ يمتلك حق التصويت 5 فقط من الانجليز)، الذي ركز على تقليص الضرائب وتوفير حماية الملكية الفردية، وفي سنة 1693م فرضت انجلترا ضريبة الأملاك على العوام والنبلاء دون فرق، بالمقابل كانت فرنسا وهولندا تفرض الضرائب على العوام وتعفي النبلاء منها.
كانت الدولة الانجليزية تنفق قسطا أكبر من الدخل القومي، واستثمرت معظم هذه الأموال على الجيش والبحرية، فإضافة لدور الجيش خارجيا كان على المستوى الداخلي يحافظ على النظام العام عن طريق قمع الاحتجاجات المناهضة لاستخدام الآلات، وكانت البحرية تعمل على توسيع الإمبراطورية ودعم تجارة البلاد.
ساهم بروز الثقافة العلمية في اكتمال الثورة الصناعية، حيث تَمخَّض عن الثورة العلمية في القرن 17م عدة اكتشافات واختراعات، بالإضافة إلى ذلك تُعتبر الفلسفة التجريبية عامل أساسي لمصداقية الأسلوب العلمي، حيث كانت الأمور تعتمد على الملاحظة والتجربة، وأدى ذلك إلى تغيير أفكار الطبقة العليا حول الدين والفلسفة، وتأثرت الثقافة الشعبية بهذا المنهج الجديد فانخفضت نسبة الأميَّة وصار التعليم مسموحا للبنات ومختلف طبقات المجتمع.
تفسير الثورة الصناعية :
كانت الاكتشافات العلمية معروفة في جميع أنحاء أوروبا، لكن ما أدى إلى تطورها واستخدامها في انجلترا بالتحديد هو ارتفاع أجور العمال البريطانيين والطاقة الرخيصة، حيث تصنف بريطانيا أنها أكثر بلد يوفر مصادر طاقة رخيصة، ونتيجة هذا الاختلاف الكبير بين الأجور والأسعار وجدت الشركات الانجليزية أنه من الأحسن استخدام التكنولوجيا لتوفير تكلفة الأيدي العاملة المرتفعة، وفي ظل توفر رأس المال والتكنولوجيا وطاقة رخيصة أصبحت انجلترا أكثر إنتاجية.
صناعة القطن:
يقول المؤرخ البريطاني«انريك هوزباوم» :”إذا ذُكرت الثورة الصناعية ذُكر القطن”، كانت صناعة القطن أكبر قطاعات الاقتصاد البريطاني بنسبة 8٪ من الإنتاج المحلي متغلبا على آسيا الشرقية، فيتمثل جوهر ظهور الثورة الصناعية في بريطانيا في إنفاق المخترعين وقتا وأموالا طائلة على البحث والتطوير، بداية اخترعوا ماكينة «جيمس هارجريفرز» للغزل ثم في تسعينات القرن الثامن عشر طورها « صامويل كرومبتون» إلى مغزل آلي، وبحلول عشرينيَّات القرن التاسع العشر استُخدمت ماكينات إنتاج القطن في مختلف دول أوروبا ثم انتقلت إلى المكسيك والهند، وبحلول سبعينيَّات من نفس القرن بدأ إنتاج القطن في دول العالم الثالث.
المحرك البخاري:
كان المحرك البخاري أكثر تكنولوجيات الثورة الصناعية التي غيرت وجه العالم لأنه سمح باستخدام القوى الميكانيكية على نطاق واسع من الصناعات المختلفة، يرجع اختراعه إلى الفرنسي «دينيس بابان» ثم طوره الانجليزي «توماس تيوكمن»، وكان علم المحركات منتشرا في معظم دول أوروبا غير أن عمليات البحث والتطوير تمت في انجلترا نظرا للعائدات الضخمة المحققة من استخدامه.
أحدثت الطاقة البخارية ثورة في النقل، فأنشات بريطانيا السكك الحديديَّة لنقل الفحم أولا، ثم استعملوها في نقل البضائع والمسافرين، ويعتبر خط السكة الحديدة الذي يربط بين ليفربول ومانشستر أول خط عام تم إنشاؤه سنة 1830م، وبحلول 1850م كانت هناك سكك حديدية في مختلف أرجاء انجلترا.
استخدمت انجلترا الطاقة البخارية أيضا في مجال النقل البحري، فخلال القرن التاسع عشر حل البخار محل الأشرعة وصارت بريطانيا مركز العالم في بناء السفن.
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي
المصدر: كتاب التاريخ الاقتصادي العالمي للبروفيسور روبرت سي الن «Robert C. Allen »