يُعتبر التاريخ الاقتصادي درة العلوم الاجتماعية، فموضوعه الأساسي يدور حول «طبيعة وأسباب ثورة الأمم»، وأصبح تاريخ الاقتصاد العالمي مجالا مثيرا للاهتمام في السنوات الأخيرة بعد ظهور دول غنية واخرى فقيرة، وهذا ما جعل الخبراء يبحثون عن سبب هذه الفجوة بين الدول، وقد أكدت الأبحاث التي أجريت حول الصين والهند والشرق الأوسط على الديناميكية المتأصلة في هذه الحضارات العظيمة، و منه يتساءل الباحثون اليوم لماذا انطلق النمو الاقتصادي في أوروبا و ليس آسيا و إفريقيا ؟
لا تتوفر بيانات كثيرة عن الاقتصاد العالمي في الماضي البعيد، لكن حتى عام 1500م كان هناك اختلاف صغير في مستوى ازدهار الدول، في حين ظهرت الفجوة الحالية بين الأغنياء والفقراء منذ أن أبحر فاسكو داجاما إلى الهند واكتشف كريستوف كولمبوس الأمريكيتين، ويمكن تقسيم الخمسمائة سنة الأخيرة إلى ثلاث فترات:
أولا، «العصر الاتجاري من 1500م إلى 1800م»، أقيمت المستعمرات في الأمريكيتين و شُحن الأفارقة كعبيد إليهما، وتم تصدير التبغ والسكر والفضة، كما صدرت آسيا المنسوجات والبهارات والخزف، وقامت الدول الأوربية الرائدة بفرض تعريفات جمركية وسَعت إلى زيادة تجارتها بإقامة مستعمرات واستغلالها وشن الحروب لمنع الدول الأخرى من التعامل مع مستعمراتها.
ثانيا، «المواكبة»: خلال القرن التاسع عشر حققت بريطانيا الريادة في المجال الصناعي و جعلت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية التنمية الاقتصادية أولوية لهم معتمدين على أربع سياسات وهي: إنشاء سوق وطنية موحدة، تأسيس بنوك للحفاظ على أسعار العملات، تمويل الاستثمارات الاقتصادية وتوفير التعليم العام للارتقاء بمهارات القوى العاملة.
ثالثا، في القرن العشرين عملت الدول الغير نامية على تطبيق نفس سياسة أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية لكنها لم تحقق نفس النجاح، فأصبحت معظم التكنولوجيا التي تعتبر أساس الاقتصاد تُبتكر في الدول الغنية مما أدى إلى ارتفاع دخل الفرد في هذه الدول، في حين اكتفت الدول الغير نامية باستيراد هذه التكنولوجيا فهي تمثل أهم ما تحتاج إليه للحاق بالركب الغربي، لكن في المقابل انخفض دخل الفرد في هذه الدول.
الناتج المحلي للفرد:
في عام 1820م، كانت أوروبا أكثر القارات ثراءا، وكان لهولندا الاقتصاد الأقوى ازدهارا، حيث وصل متوسط الدخل فيها 1828 دولار للفرد، وسعت الدول الأوربية الأخرى إلى اللحاق باقتصاد الدول المنخفضة (هولندا، بلجيكا ولوكسمبورغ)، فحققت بريطانيا العظمى ثاني أغنى اقتصاد ب 1707 دولار للفرد، في المقابل تخلفت معظم دول العالم وخاصة الإفريقية منها حيث بلغ متوسط الدخل الفردي في هذه الأخيرة 415 دولار.
ما بين 1820م والوقت الحاضر، اتسعت الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، فوصل الدخل الفردي في الدول الغنية 30 ألف دولار، و10الاف دولار في دول آسيا و أمريكا اللاتينية، بينما في إفريقيا يتراوح بين ألف و 11 ألف دولار للفرد لأنها كانت القارة الأكثر فقرا، لكن هناك استثناءات لهذه الفجوة و يعتبر شرق أسيا ابرز مثال على ذلك خاصة النجاح العظيم لليابان.
عامل التصنيع:
يعتبر التصنيع من الأسباب الرئيسية لهذه الفجوة، ففي عام 1750م كانت معظم عمليات التصنيع تجرى في الصين وشبه القارة الهندية، اغلبها من الخزف والمنسوجات، لكن بحلول عام 1920، تغير وضع العالم فكانت الثورة الصناعية البريطانية هي الحدث الأكبر، حيث تعتبر المنافسة البريطانية السبب في القضاء على الصناعة التقليدية في آسيا، التي أدت إلى توقف معظم الصناعات التقليدية لتوفر منتجين يعتمدون على الماكينات، وبعد الحرب العالمية الثانية تحولت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى دول صناعية بالإضافة إلى الاتحاد السوفيتي لكنه انهار تماما بعد تفككه، لكن في عام 1980، حدثت المعجزة في دول شرق آسيا بإتباع نظام اقتصادي منظم، مثلا: بلغت حصة اليابان من مجموع الإنتاج العالمي 17٪.
الأجور الحقيقة:
لا يُعتبَر إجمالي الناتج المحلي مقياسًا مناسبًا للرخاء؛ إذ إنه لا يأخذ في الحسبان عوامل كثيرة، مثل الصحة ومتوسط العمر والمستوى التعليمي، بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يُصعب غياب البيانات حسابه، كما أنه قد يكون مضلِّلًا؛ نظرًا لأنه يحتسب متوسط دخول الأغنياء والفقراء معًا، يمكن التغلب على هذه المشكلات من خلال حساب «الأجور الحقيقية».
لقياس مستوى معيشة العاملين، يجب مقارنة أجورهم بأسعار البضائع الاستهلاكية، ثم يجب حساب متوسط هذه الأسعار لحساب مؤشر أسعار المستهلك أي تكلفة بقاء الفرد حيا وفق الحد الأدنى من متطلبات الحياة، حيث في عام 1500م، كان العمال يعتمدون على غذاء شبه نباتي، وتتكون الوجبة من ارخص أنواع الحبوب الموجودة في كل بقعة من العالم، قال «فرانسيسكو بلسارت» تاجر هولندي زار الهند أواخر القرن السابع:” لا يعرف العاملون سوى القليل عن مذاق اللحم.”
في العصور الوسطى، كان العاملون في فلورنسا يأكلون الخبز لكن بحلول القرن الثامن عشر لم يستطع العاملون سوى تناول العصيدة المصنوعة من الذرة التي وصلت إليهم من الأمريكتين،في نفس التاريخ حدثت الفجوة الكبرى في أوروبا، فانهارت مستويات المعيشة في القارة، ولم يستطع العاملون سوى جني ما يكفي لأساسيات الطعام.
وقعت فجوة بين الأجور الحقيقية مثلما وقعت فجوة في إجمالي الناتج المحلي للفرد، حيث بلغ الأجر الحقيقي في لندن أربعة أضعاف قيمة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وارتفعت النسبة إلى50 ضعفًا منذ عام 1870، في المقابل، لا تزال الأجور الحقيقية في الدول الفقيرة من العالم تقف عند حدود ذلك الحد الأدنى، في عام 1990 ، حدَّد البنك الدولي خط الفقر العالمي عند قيمة دولار واحد يوميٍّا(وهو ما ارتفع ليصبح 1.25 دولار نظرًا للتضخم)، لكن حاليا يعيش أكثر من مليار شخص تحت هذا الخط، وينطوي الحد الأدنى من متطلبات الحياة على تداعيات أخرى تؤثر على الرفاهة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي حيث:
أولا، نجد أن الأشخاص الذين يتناولون وجبات الحد الأدنى قصار القامة، مثلا: بلغ متوسط طول الفرد البريطاني في القرن الثامن عشر 182 سم نظرا لتغذيتهم بصورة أفضل، وعندما يقل طول الأشخاص ينخفض مستوى أعمارهم أيضا وتتردى صحتهم بشكل عام.
ثانيا، يتلقى الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر تعليما اقل جودة، يحكي السير« فردريك إيدن» الذي أجرى مسحًا لدخول العمال وأنماط إنفاقهم في إنجلترا في تسعينيات القرن الثامن عشر قصة بستاني لندني كان ينفق ستة بنسات من دخله أسبوعيٍّا لإرسال اثنين من أبنائه إلى المدرسة، و هذا دليل على أن الأجور المرتفعة ساهمت في تحقيق النمو الاقتصادي من خلال الحفاظ على الصحة و دعم التعليم.
أخيرا، إن العيش على الحد الأدنى للفقر يزيل أي حافز للتطور على المستوى الاقتصادي حتى إنه لا يوفر لدى الشركات الحافز الكافي لابتكار أو استخدام ماكينات ترفع من مستوى الإنتاجية، فالعيش على الحد الأدنى من متطلبات الحياة ما هو إلا فخ للفقر، ولقد اندلعت الثورة الصناعية نتيجة للأجور المرتفعة، ولم تكن سببًا لها فقط.
المصدر: كتاب التاريخ الاقتصادي العالمي لبروفيسور روبرت سي الن-Robert C. Allen
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي