إن ملاحظة وضع العالم حاليا يجعلنا نتساءل لماذا تزداد اللامساواة بين الدول؟ لكن الخبراء يؤكدون وجود عدة عوامل لعبت دورا أساسيا في ذلك وهي كالآتي :
– الجغرافيا:
حيث تمثل عاملا رئيسيا في اقتصاد الدول، و مثال ذلك حين ساهمت مناجم الفحم البريطانية في انطلاق الثورة الصناعية، بالمقابل أعاقت الملاريا نمو المناطق الاستوائية، ولكن أهمية الجغرافيا تعتمد على وجود التكنولوجيا فهي نادرا ما تؤدي الى ازدهار الدول في حال غياب التطور التكنولوجي.
-الثقافة:
لطالما كانت الثقافة تفسيرا شائعا للنجاح الاقتصادي، على سبيل المثال يقول«ماكس ويبر» وهو عالم ألماني في الاقتصاد والاجتماع:”إن المذهب البروستاتي جعل سكان أوربا الشمالية أكثر عقلانية وجدية في العمل”، بالإضافة إلى ذلك تعتبر القدرة على القراءة والمهارات الحسابية من الشروط الأساسية لتحقيق النجاح الاقتصادي منذ القرن السابع عشر.
-المؤسسات السياسية الاقتصادية:
يرى الكثير من خبراء الاقتصاد أن النجاح الاقتصادي ينشأ من تأمين حقوق الملكية وخفض الضرائب وتقليص الدخل الحكومي، فالملكيات الاستبدادية قامت بتضييق الخناق على النشاط الإقتصادي مثلما كانت قديما اسبانيا وفرنسا والصين، على سبيل المثال: تمتع البرلمان بالسلطة العليا في انجلترا بعد الثورة المجيدة سنة 1688م التي شهدت بعدها نموا سريعا.
العولمة الأولى:
تعتبر التكنولوجيا والعولمة السبب الأول في حدوث تنمية غير متساوية بين الدول. بدأت العولمة في نهاية القرن الخامس عشر مع رحلات كولومبوس التي تطلبت سفنا تبحر حول العالم، واستطاعت أوروبا صنعها خلال القرن الخامس عشر وأطلقت عليها اسم«ثلاثية الصواري»
في البداية كانت التجارة البحرية تتم بين دول أوروبا، حيث بدأت هولندا ذلك فشحنت الحبوب البولندية من جداسك إلى هولندا، وبحلول القرن السادس عشر كانت تجري التبادلات التجارية في دول البحر المتوسط، لكن كان الأثر الكبير للسفن ثلاثية الصواري هو الرحلات الاستكشافية حيث في عام 1418م وصل فاسكو داجاما إلى كوتشن الهندية وشحن الفلفل في سفينته إلى أوروبا، وكان سعر الفلفل في الهند 4٪ أقل من السعر في أوروبا، و بذلك جنى المستهلكون الأوربيون معظم الفوائد في التجارة من آسيا، ومع اكتشاف كولومبوس للأمريكيتين بدأت الصراعات حول المستعمرات، حيث كان البرتغاليون والاسبانيون أول الفائزين، فالبرتغال توغلت في شرق آسيا و اكتشفت جزر التوابل الأسطورية (أي جزر الملوك في اندونيسيا)، واكتشفت البرازيل سنة 1500م التي صارت أكبر مستعمراتها، أما اسبانيا فكانت أكثرا ثراء، حيث غزت إمبراطورية الازتك (المكسيك حاليا)، وقد تبع تلك الغزوات اكتشاف مناجم هائلة للفضة في بوليفيا و المكسيك.
أما انجازات أوروبا الشمالية فكانت متواضعة و لم تبرز كقوى استعمارية إلا في بداية القرن السابع عشر، فأسست شركات تجمع بين النشاط الاستعماري والنشاط الاقتصادي وأهمها شركة الهند الشرقية، حيث ساهمت الأخيرة في قيام إمبراطورية هولندية في آسيا الشرقية على حساب البرتغاليين، وأنشأوا مدينة نيويورك سنة 1624م ومستعمرة كيب في جنوب إفريقيا سنة 1602م.
أقامت انجلترا أيضا إمبراطورية في القرن السابع عشر، فأسست مواقع تجارية محصنة في سوران وبومباي وكلتا سنة 1690م، وبحلول عام 1747م وصل عدد المنشات في الهند إلى 23 منشاة، وأقامت في أمريكا عدة مستعمرات أهمها مستعمرة ساتشوستنس سنة 1620، واستولت على جزر البهاما وعدة جزر في منطقة الكاريبي.
قامت الدولة الانجليزية بتوسيع إمبراطوريتها على حساب الهولنديين، فأدى ذلك إلى اندلاع الحرب الانجليزية الهولندية سنة 1652م، لكن انجلترا فشلت في ذلك، وقامت بعدها عدة حروب بينهم حتى استولت انجلترا على نيويورك سنة 1664م.
ساهمت تجارة انجلترا وهولندا في تطوير اقتصادهما، فنمت المدن وازدادت عمليات التصنيع الموجهة للتصدير مما أدى الىى تغير الهيكل الوظيفي للسكان، حيث انخفضت نسبة العاملين في القطاع الزراعي الى 45٪، و بلغ عدد سكان الأرياف الغير زراعيين 32٪ الذين كانوا يعملون في الصناعات الخفيفة، وتطور اقتصاد الدول المنخفضة بنمط مشابه لانجلترا، حيث كانت لهولندا صناعات ريفية ضخمة موجهة للتصدير، في المقابل لم تشهد باقي الدول الأوربية تحولات كبرى، فقد دفعت العولمة بدول شمال غرب أوروبا إلى الأمام بينما أبقت على دول جنوب أوروبا في المؤخرة.
وكان لنجاح الاقتصاد العالمي آثارًا هائلة على التطور الاقتصادي، منها:
أولًا: أدَّى النمو الحضري والتصنيع في المناطق الريفية الى زيادة الطلب على الأيدي العاملة الذي خلق سوق عمالة محدودة مع زيادة في الأجور، حيث كانت مستويات المعيشة مرتفعة في لندن وأمستردام.
ثانيًا: أدَّى نمو المدن وارتفاع الأجور إلى زيادة الطلب على الزراعة للحصول على الغذاء والأيدي العاملة؛ مما تمخض عنه ثورات زراعية في إنجلترا وهولندا، فارتفع إنتاج كل مُزارِع بنسبة تصل إلى حوالي ٥٠ ٪ في كلتا الدولتين، ووصل الى أعلى المستويات في أوروبا.
ثالثًا: أدى نمو الطلب في المناطق الحضرية إلى حدوث ثورات في توفير الطاقة في إنجلترا وهولندا، ففي العصور الوسطى، كان الفحم النباتي وخشب الأشجار من مصادر الطاقة الرئيسية في المدن، ومع نمو المدن زادت أسعار الخشب زيادة هائلة، مما أدى الى تطوير بدائل للوقود. ففي هولندا كان البديل هو الخُثُّ، فيما كان الفحم هو البديل في إنجلترا، الذي كان يُستخرَج من دورام ونورثمبرلاند ثم يُشحَن عبر الساحل إلى لندن، وكانت إنجلترا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك صناعة هائلة لاستخراج الفحم في القرن الثامن عشر، وهو ما مكَّنها من الحصول على أرخص مصادر الطاقة في العالم.
رابعًا: أدى ارتفاع الأجور الى زيادة المستويات المعرفية في القراءة والكتابة، والمهارات الحسابية، فبين عامَي 1500م و1800م تطورت القراءة والكتابة في كل مكان في أوروبا، غير أن الزيادة الكبرى كانت في منطقة شمال غرب أوروبا، حيث زاد التوسع في النشاط التجاري والتصنيع من الطلب على التعليم ،وفي الوقت نفسه، جعَلَ الاقتصادُ الذي يتميز بارتفاع الأجورِ الآباءَ قادرين على تعليم أبنائهم.
تدقيق لغوي: هبة جحيش
المصدر: كتاب التاريخ الاقتصادي العالمي للبروفيسور روبرت سي الن «Robert C. Allen ».