يعتقد عُلماء الفلك أنَ ما يتحكمُ في توسع الكونِ أمرَان هما: قوة الجاذبية، وكذا الطاقة المظلمة الغامِضة.
في بادئ الأمر، دعُونا نتحدثُ عن الطاقة المظلمة، لقد عرفنا منذ 20 عامًا أن كوننا يتوسع، وهذا التوسُع يتزَايد بوتِيرة مُستمرة، فكل يوم يتمددُ الكون أكثر وأكثر بشكل أسْرع فَأسرَع، إلا أن هذا الأمر يحدثُ بشكلٍ طفِيفٍ للغايةِ، ويتطلبُ إجراء دراسات شاملة وعميقة من قبل العلماء للتمكن من رصده. لكن هنالك العديدُ من الأدلَة المستقلة والتي تُشير جميعها إلى نفس النتيجة: الكون في توسعٍ مُتسارع.
و سريعًا ما أطلق علماء الفلك اسمًا مُثيرًا على هذا التوسع المتسارع للكون، وهو ما يُعرفُ الآن بالطاقة المظلمة، لكننا الآن وجدنا أنفسنا أماَم مهمةٍ أصعبَ بكثير، ألا وهي العثور على مُسبب هذه الظاهرة.
خطأٌ كوني
نحن نستخدم النسبية العامة (رائعة ألبرت آينشتاين) لفهم الجاذبية بكل تجلياتها، بما في ذلك توسع الكون، لكن معادلات النسبية العامة تسمح بوجود مجالٍ للمناورة، وعلى وجه التحديد، فإنها تسمح بوجود بما يسمى “الثابت الكوني “cosmological constant”، وهو مصطلح ثابت يمكن إلحاقه بالنهاية. إضافة الى أن هذا الثابت لا يُغيرُ من أوصاف النظرية لتفاعلات الجاذبية العادية اليومية، لكنه يظهر جليًا عند حساب توسع الكون.
سيكون من الطبيعي أن نضع قيمة هذا الثابت مساويةً للصفر ونهمله، لكن آينشتاين بنفسه هو من وضع هذا الثابت لأنه وجد أنه بدونه تنبأت نظريته النسبية بكون ديناميكي، في الوقت الذي كان كل الفيزيائيين و العلماء يعتقدون أن الكون ثابت ولا يتغير، لذلك أضاف آينشتاين قيمة للثابت لمنع التنبؤ بكون ديناميكي، لسوء الحظ بعد عدة سنوات أظهر العالم الفلكي إدوين هابل للجميع أننا نعيش بالفعل في عالم متسع وديناميكي وأدرك أينشتاين أنه قد فاتته فرصةٌ ذهبية للتنبؤ بهذه الملاحظة الثورية.
لكن في الوقت الحاضر، نحن بالفعل نواجه التوسع المتسارع، وأبسط تفسير لدينا له هو أن الطاقة المظلمة هي ببساطة الثابت الكوني لآينشتاين، لكن الثابت بحد ذاته هو مجرد رقم ، فما هي إذن أهميته الفيزيائية؟
التوجه إلى الفراغ
في ستينيات القرن الماضي، قام عالم الفيزياء الفلكية السوفييتي العبقري ياكوف زيلودوفيتش Yakov Zel’dovich بربطٍ مُذهل مفادُه أن الثابت الكوني الذي يظهر في معادلات آينشتاين ليس سوى طاقة الفراغ التي تتنبأت بها نظرية المجال الكمومي.
ووفقًا لهذه النظرية، فإن هناك مجموعةً من الحقول الكمية تتخلل جميع فرغات الزمكان، وفي بعض الأحيان تتفاعل أجزاءٌ من هذه الحقول وتقوم بالتحرك وهذا ما نعرّفه بالجزيئات. ولكن لازالت هذه الحقول مرتبطةٌ بالطاقة. فبعبارة أخرى، فراغ الزمكان لديه طاقةٌ خام، وهذه الطاقة يمكن تعريفها بأنها الثابت الكوني في النسبية العامة، مما يعني أنها قد تكون الطاقة المظلمة نفسها.
إذاً، بعد أن أصبح لدينا أثرٌ لنطارده، فماهي القيمة المتوقعة للطاقة المظلمة؟
حسنًا الرياضيات ليست سهلة لكن يجب فقط أن نقوم بتحويل مرفق لنظرية الحقل الكمومي، وإخراج معامل المالانهاية.
حسنا، هذا لن ينجح!
هنالك عدة مناورات يمكنها أن تجعل القيمة المتوقعة للطاقة المظلمة ليست مالانهاية، ولكن بغض النظر عن ما تفعله، فستنتهي دائمًا بعدد كبير جدًا، لكن ماذا عن الكمية الفعليّة “المرصودة” من الطاقة المظلمة والتي تم حسابها من معدل التوسع المتسارع؟ حسنًا إنها صغيرة جداً، فهي تُعادل أقلَ من طاقة ذرة هيدروجين واحدة لكل مترٍ مُكعب (35 قدم مكعب). هذا التناقض “الصغير” بين القيمة المتوقعة للطاقة المظلمة ومعدل التوسع المرصود هو واحد من أكبر الألغاز في الفيزياء الحديثة، وربما لا يأتي حسم هذا التناقض إلا بتصفية الحساب بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة.
حتى ذلك الحين، ينبغي علينا أن نفهم كيف يمكن لطاقة الفراغ أن تُسرع هذا التوسع.
الجذب للدفع
هذه واحدة من تلك الحالات الغريبة التي تكون فيها علاقة الرياضيات بالفيزياء خاليةٌ من الغموض وواضحةٌ تمامًا، فببساطة، طاقة الفراغ الثابتة تؤدي الى تسارع توسُع الكون.ولكن وصف هذا الإستنتاج بكلمات بسيطة حتى نتمكن من فهمه بشكل بديهي هو شيء آخر تمامًا، وهو أمرٌ كافح لأجله الفلكيون لعقود. سنعطي هذا الأمر فرصة، لكن إذا أردت فقط أن تقول لنفسك: “هذا ماتقوله الحسابات” وتنتقل الى الفقرة التالية فأنت غير ملام.
توجد خاصيتين رئيسيتن لتوسع الطاقة الفراغية، الأولى هي بقاء الفراغ وثباته، فمع توسع الكون تتوفر مساحة أكبر لذلك سيتوفر المزيد من الفراغ وأيضًا المزيد من الطاقة الفراغية، لذلك في عالمنا الآخِذ في التطور نجِد المزيدَ من الطاقة المظلمة حولنا.
الخاصية الثانية الرئيسية للتوسع هي أن الفراغ لديه توترٌ معين (عادة ما يُطلق عليه “الضغط السلبي”، لكنهما وجهان لعملة واحدة) هذا التوتر يقاوم توسع الكون، كأنه يحاول كبحَ جِماح الكون المتسع.
ضع هاتين الخاصيتين معًا وستحصل على عكس ما قد تتوقعه تمامًا! ذلك أن معادلات النسبية العامة تأخذ بعين الاعتبار جميع مصادر الطاقة لتحديد سلوك توسع الكون، ويمكن أن تساهم مصادر الطاقة المختلفة في التأثيرات الإيجابية أو السلبية، لذلك يتم أخذ الطاقة الخام للفراغ بعين الإعتبار والتي ستكون ذات مساهمةٍ جاذبَة مما يبطئ توسع الكون، الأمر الذي يفعله أيضًا توتر الفراغ ذو المساهمة التنافرية. بعبارة أخرى، في رياضيات النسبية العامة، يحمل التوتر النابع عن الطاقة المظلمة إشارةً سالبة، ويساهم في تسريع توسع الكون.
و قد اتضح أن النسبية العامة تهتم بالضغط والتوتر أكثر من الطاقة الخام، وهذا شيء غير مألوف تمامًا في تجاربنا اليومية، ففي جميع الحالات الأخرى، مثل الحركات داخل النظام الشمسي أو حتى في المناطق القريبة من الثقوب السوداء، لا يؤخذ التوتر ولا الضغط بعين الأعتبار في الحسابات، لكن في هذه الحالة يعد هذا الأمر مهمًا.
الأمر المضحك هنا هو أن الطاقة المظلمة تزداد كل يوم، و بالتالي فمن المنطقي أنها ستُسَبِبُ تقلصا للكون، إلا أن مقاومتها الخاصة تسبب في قلب المعادلة بأكملها وبدلًا من ذلك تُسرع نمو الكون.
في الظلام
التفسير السابق قد يكون مُرضِياً أو لا ، فمرة أخرى الحسابات واضحة، لكن لاتوجد طريقة سهلة لترجمة هذه المعادلات إلى لغة مفهومة، ومع ذلك فإن سلوك الطاقة الفارغية هو أفضل تفسير موجود للتوسُع المتسارِع للكون، بالطبع هو ليس بالحل المثالي، فكما رأينا، نحن نفتقر بشدة إلى قدرتنا على التنبؤ بكمية هذا التسارع.
في حين أن وجود الطاقة المظلمة أمرٌ لا شك فيه، إلا أنه في نهاية المطاف سَبب وجودها غير معروف، لدينا بعض المشتبه بهم المحتملين ولكن لا يوجد دليل قاطع، نحن بحاجة إلى المزيد من الاستقصاء وقياس معدل التوسع في الكون وتاريخ معدل التوسع للوصول الى دقة أكبر من أي وقت مضى، ولكن نظرًا لأن الطاقة المظلمة تمثل تأثيرًا خفيًا للغاية، فسيتطلب الأمر نوعًا جديدًا تمامًا من الملاحظات نأمل به أن تكشُف بعض الإجابات.
ترجمة: حسين الكريمي
المصدر: هنا
تدقيق لغوي: هبة جحيش