شكل ظهور الميتوكوندريا نقطة تحول حاسمة في تاريخ تطور الحياة على كوكب الأرض، خاصة امتلاكها لجينوم مستقل استقلالا تاما عن الجينوم النووي.
تعد نظرية النشوء التعايشي (Symbiogenesis) من النظريات الأقرب للتفسير الصحيح لأصل الميتوكوندريا والتطور الخاص بالخلايا حقيقية النواة، والتي عملت Lynn Margulis باستمرار على مدى عقود خاصة خلال الفترة (1960-1970) لإثبات صحتها للمجتمع العلمي فكتبت بشكل مكثف حولها وقدمت العديد من الأمثلة كان أشهرها حول الميتوكوندريا في الخلايا حقيقية النواة. إذ أن هذه العضية تشكلت لما بدأت بكتيريا بالعيش داخل خلية مضيفة بدائية (تعايش داخلي) ضمن علاقة منفعة متبادلة تزود البكتيريا عبرها الخلية المضيفة بكمية إضافية من الطاقة، فنتجت عن التفاعل بينهما خلية حقيقية النواة بها نوعين من الجينات، يعود أصلها إلى كل من الخلية البدائية والبكتيريا. كما قدم Bitis وGaballdon في بحثهما دليلا على أن الخلية المضيفة كانت تحتوي في الأصل على جينات تعود إلى مجموعة كائنات مختلفة اكتُسبت ربما عن طريق تفاعلات تعايشية (داخلية) سابقة مع شركاء مختلفين، وذلك قبل التعايش الداخلي للميتوكوندري، ما يدل أن الميتوكوندريا تطورت في مرحلة لاحقة تلي مرحلة تطور حقيقيات النواة، انتقلت خلالها من كائن بكتيري متطفل الى أهم مصدر للطاقة في الخلية البدائية.
تحتوي الميتوكوندريا على جينوم مدمج خاص بها، منفصل عن الجينوم النووي. في جميع الثدييات تقريبا، هذا الجينوم الميتوكوندري موروث بشكل حصري من الأم، كيف ذلك؟
ذلك أن الميتوكوندريا توجد في سيتوبلازم الخلية وليس في نواتها، وعندما يخترق الحيوان المنوي غشاء البويضة لتخصيبها خلال أولى مراحل الحمل فإن ما سيطرحه بداخلها لن يكون سوى نواة حاملة ل 23 كروموسوما من الأب ويترك باقي العضيات لتتحلل خارج النواة بفعل العصارات الحامضية التي يفرزها الرحم، عكس البويضة التي تحمل كل المكونات الخلوية وتحتوي في نواتها أيضا 23 كروموسوما من الأم. وبهذا تتجمع 46 كروموسوم التي تقوم بتنشئة الجنين فيحتفظ بميتوكوندريا أمه ولا يستقبل من أبيه سوى الجينوم النووي. كما أن آخر الدراسات أثبتت أن بقاء جينوم الميتوكوندريا الخاص بالأب يؤدي الى خلل في نمو الجنين.
إن آلية تدمير ميتوكوندريا الحيوان المنوي تم اكتشافها عبر دراسات الباحث تشو وزملاؤه نُشرت نتائجها بتاريخ 23 يونيو/ حزيران في مجلة Science، والذي أوضح أن عملية تدمير الميتوكوندريا تتم انطلاقا من تدمير حمضها النووي مباشرة بعد الاخصاب، بتدخل بروتين CPS-6، حيث أن تدمير حمضها النووي يجعلها غير قادرة لا على تركيب مكونات جديدة خاصة بها ولا على تعويض التالف منها وبالتالي تثبيط إنتاجها الطاقة حتى يتم التخلص منها. وتمت دراسات الباحث تشو عبر دراسة بالمجهر الإلكتروني لحيوان منوي في دودة الربداء الرشيقة (Caenorhabditis elegans) أثناء مرحلة الإخصاب، كما تم تحديد الجين المسؤول عن انتاج بروتين CPS-6 عبر تثبيط عدد من الجينات داخل جينوم الميتوكوندريا وملاحظة أضرار غياب كل جين على التوالي من بينها الجين المسؤول عن انتاج هذا البروتين.
وإن كانت فكرة أن الأم مصدر حصري للميتوكوندري لأبنائها هي مسلَّمة تُبنى عليها دراسات الميتوكوندريا منذ لحظة اكتشافها، فإن آخر الدراسات العلمية أثبتت أن الأب بإمكانه كذلك توريث الميتوكوندريا الخاصة به، ففي حالة غريبة صادفت عالم الجينات تاوشنغ هوانغ من مشفى سينسيناتي الأمريكي لطب الأطفال، عند فحص الميتوكوندريا الخاصة بصبي ذو اربعة سنوات اشتبه في اصابته باضطراب الميتوكوندريا كان الحمض النووي الميتوكوندري الخاص به وكذلك بشقيقتيه يختلف عما هو موجود عند ابيهم ورغم تكرار التجربة الا ان النتيجة كانت نفسها حيث أظهرت نتائج فحوصات الصبي وجود خليط من الجينات الوراثية – يطلق عليه اسم heteroplasmy – في الحمض النووي الميتوكوندري الذي يتكون من أكثر من مجرد مساهمات من الأمهات، أي أن الاطفال ورثوا نمطا جينوميا ميتوكوندريا متغايرا من الأم. وعند فحص الأم عبر تحاليل فصل المورثات التي يحملها جينوم الميتوكوندريا الخاص بها وتطبيق نفس الفحوصات على الجد والجدة فإن حمض الأم النووي الميتوكوندري كان خليطا بنسب 40% من والدها و60% من والدتها.
حالات أخرى مشابهة حُدِّدت في و.م.أ عبر تجارب سريرية عالية الدقة ل 3 عائلات متعددة، أظهرت نسبا عالية من التغاير في الحمض النووي الميتوكوندري تتراوح من 24 حتى 76% لدى 17 فردا. حيث بدأت التجارب مع العائلة A – نفس عائلة الصبي -حيث تمت اضافة أفراد آخرين من أبناء العمومة لإثبات التجارب فظهرت نفس النتائج بنفس التغاير في الجينوم الميتوكوندري. لتتواصل التجارب على عائلتين B و C وُجد أنَّ لديهم نفس الأعراض المرضية من تعب وإرهاق فأخذ فرد يبلغ 35 سنة من العائلة B له تأخر في النمو، التعب المزمن، السكري، وأمراض القلب. أما عن العائلة C فكانت العينة أنثى بعمر 46 بنفس الأعراض تقريبا، فكانت النتائج كذلك على مستوى معين من التغاير في تسلل جينومات الميتوكوندري.
أثبتت هذه الدراسات أنه رغم سيادة الجينوم الميتوكوندري للأم إلا أنه هناك حالات استثنائية ينتقل فيها من الأب الى الأبناء، فالمساهمة الأبوية في الحمض النووي الميتوكوندري لدى البشر تفتح آفاقا جديدة لإيجاد آليات بديلة لعلاج أمراض الميتوكوندريا الموروثة وبتكاليف أقل ربما.
المصادر:
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي