في الخامس عشر من جويلية 2019، صرّح بنك إنجلترا بأن عالم الرّياضيات والحاسوب “آلان تورينغ” هو الشّخصية الّتي ستظهر على ورقة الخمسين باوند الجديدة، كتكريم وإعادة اعتبار للرجل. فمن هو تورينغ هذا؟ ولماذا يُعتبر من أبطال الحرب العالمية الثانية؟ وماهي القصّة وراء انتحاره؟ ولماذا لم يحظَ بأيّ تكريم في حياته؟
تساؤلات سنجيب عنها وعن غيرها في هذا المقال.
من هــو آلان تــــورينـــغ؟
آلان تورينغ (1912- 1954، Alan Turing)، هو عالم رياضيات وحاسوب بريطانيُّ الجنسيّة. ويعتبر أب علم الحاسوب النّظري والذّكاء الاصطناعي، وبطلا كبيرًا من أبطال الحرب العالميّة الثانية.
ساهم “تورينغ” في تكوين مفهوم الخوارزميّة، وهو مفهوم مهم جدًّا في علم الحاسوب. كما أنه كان رائدا في مجال الذّكاء الاصطناعي، فقد أنشأ «اختبار تورينغ» أو «Turing Test»، وهو الاختبار الذي نتحقّق به من “ذكاء” الحاسوب.
اشتهر بدوره الحاسم في اختراق آلة التشفير النازية المسماة «إينيغما» أو «Enigma»، والتي ساعدت الحلفاء بشكل كبير إبّان الحرب العالمية الثانية، إضافة لإنجازات أخرى لا يمكننا غضّ النظر عنها.
لمـاذا تـورينغ بالـذّات على الخـمسين بـاوند الجــديدة؟
في خطاب إعلان محافظ بنك إنجلترا _مارك كارني (Mark Carney)_ عن ظهور “آلان تورينغ” على الورقة النقدية الجديدة من فئة الخمسين باوند _والتي ستدخل التّداول سنة 2021_ قال: « آلان تورينغ كان رياضيًّا متفوّقا له فضل كبير في رفاهية عيشنا اليوم، بصفته أب علم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، وكذلك كونه بطل حرب. إسهامات “آلان تورينغ” كانت رائدة بعيدة المدى. لقد كان هذا الرجل عملاقا يستند الكثير على كتفيه اليوم».
يقول البنك أنه تلقى قائمة من 989 شخصيّة مرشحة، تم تقليصها لاحقا إلى قائمة تضم اثنتي عشر شخصية فقط، أين كان لمحافظ البنك “كارني” الاختيار النهائي. وقد ضمّت وجوها علميّة بارزة من القرن التاسع عشر، مثل الفيزيائي جيمس كلارك ماكسويل، الفلكي ويليام هيرشل، والرياضيّة آدا لوفلاس؛ وضمّت كذلك علماء حائزين على جائزة نوبل، مثل الفيزيائيَّيْن بول ديراك وآرنست روذرفورد، والكيميائيَّيْن فريديريك سانغر ودوروثي هودكين. كما شملت علماء آخرين مثل الكيميائيّة روزالين فرانكلين والفيزيائيّ ستيفن هوكينغ. ورغم وجود كل هؤلاء العظماء، فقد وقع الاختيار في النّهاية على تورينغ.
تظهر في الأوراق النّقدية البريطانية الملكة إيليزابيث على الوجه الأول، وأحد الوجوه البارزة في التّاريخ البريطاني على الوجه الآخر. العلماء السابقون الذين تم تخليد ذكراهم بهذه الطريقة هم إسحاق نيوتن، تشارلز داروين ومايكل فاراداي، إضافة إلى جايمس واط، ثم “آلين تورينغ” الّذي يظهر على ورقة الخمسين باوند الحالية.
اخــتراق “إينيــغما” وهزيــمة النــــازية؟
في بريطانيا، لم يكن “تورينغ” مجرّد عالم رياضيات وحاسوب فذ فقط، بل كان العبقري الّذي أسهم بشكل حاسم في اختراق آلة التشفير النازية المسماة «إينيغما» أو «Enigma» إبان الحرب العالمية الثانية. ما أدّى إلى اعتراض رسائل البحريّة الألمانيّة، وهذا ما أعطى الحلفاء الأفضلية في العديد من المعارك والأحداث وقتها.
وقد ساهم كسره لهذه الشيفرة المعقدة في ترجيح كفّة الحلفاء، خاصّة في معركة الأطلسي التي تعتبر أطول حملة عسكرية في الحرب العالمية الثانية، حيث دامت من 1939 إلى غاية 1945. وأشارت تقديرات إلى أنّ هذا الاختراق عجَّل في نهاية الحرب في أوروبا بسنتين، وساهم في إنقاذ أرواح 14 مليون شخص.
تــورينـغ… بطـــل الظـــل!
كان تورينغ مثليّ الميول الجنسيّة، وهو ما أدّى إلى محاكمته سنة 1952 بتهمة «البذاءة الكبرى»، فقد اعتبر الأمر جريمة إهانة للمملكة المتحدة وقتها. بسبب ذلك، قَبِل “تورينغ” الخضوع لعلاج كيمائيّ للحدّ من ميولاته الجنسية بدل الزج به في السجن. لكنّه انتحر بعدها بسنتين بواسطة سم السيانيد، قبل ستة عشر يوما من عيد ميلاده الثاني والأربعين.
ومع ذلك، فإنّ المؤمنين بنظرية المؤامرة يعتقدون أنّ “تورينغ” كان يمثّل مصدر قلق وحرج كبير للسّلطات البريطانية في تلك الحقبة، لأنّها كانت تخشى أن يتم اصطياده من طرف الشيوعيين، هو وشخصيات بارزة أخرى في البلاد، من خلال استغلال ميولاتهم الجنسية، والحصول على معلومات استخباراتية حساسة. فعلا، فقد كان “تورينغ” في تلك الحقبة يعمل على مشاريع في غاية السرية. لذلك تفترض نظريات المؤامرة تلك أن الاستخبارات البريطانية كانت تعُدُّ الرّجل خطَرا كبيرًا على الأمن القومي، فاُضطُرّت في نهاية المطاف إلى اغتياله، ما أدى إلى خسارة أحد أبرز العقول في البلاد.
رغم كل هذه المتاعب التي مر بها، فقد بقيت بطولات “تورينغ” حبيسة الملفّات السّرية، حيث لم يجد الثّناء والتّكريم طوال حياته في بلاده. وبقيت قصة كسر شيفرة “إينيغما” من طرفه ملفّا في غاية السرية، إلى غاية السبعينيات، حين سمع البريطانيون والعالم كلّه بالإسهامات الكبيرة لهذا الرجل، سواءً في مجال علم الكبيوتر، علم التشفير، أو انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
في سنة 2013، وإثر عريضة وقّعها حوالي سبع وثلاثين ألف شخص، وقّعت الملكة إيليزابيث على عفو ملكي عن آلان تورينغ.
تــورينـغ… ولــعبة المحــــاكـات
لقيت قصة تورينغ تعاطفا كبيرا في بريطانيا خاصة، حيث أن العفو الملكي وظهوره على العملة الورقية البريطانية كان حقلة في سلسلة ترمي إلى كشف قصته بكل جوانبها للرأي العام. حلقة أخرى كانت سنة 2014، عندما صدر فيلم لعبة المحاكات (The Imitation Game)، للمخرج النرويجي مورتن تيلدوم، و الذي يحكي قصة العبقري تورينغ، خاصة إسهامه العظيم في فك شيفرة آلة الاتصالات الألمانية إينيغما. كان الفيلم من بطولة الممثل البريطاني بينيديكت كامبرباتش (Benedict Cumberbatch)، حيث حصل الفيلم على جائزة الأوسكار لأحسن سيناريو.
قد تبقى حياة تورينغ الشّخصية مثيرة للجدل حتى بين البريطانيين أنفسهم. لكنّ نظرة شاملة على حياة الرجل، تبيّن أنّ من الصّعب إنكار إنجازاته العظيمة للعلم والبشريّة.
تدقيق لغوي: سلمى بوقرعة
تصميم: رامي نزلي