لا يختلف اثنان من الخبراء اليوم أن مبدأ الفاعلية الاقتصادية للنشاط البشري هو أحد المبادئ الفطرية الأزلية التي قامت عليها الحضارة الإنسانية عامة و المعاصرة، الفكرة التي لم يكن لها تصور واضح حقيقي وشامل بشكلها الحالي في الخيال الشعبي لدى الحضارات والدول خلال العصور السابقة، رغم تعدد المنجزات الحضارية والصروح العظيمة التي تم تشييدها خلال تلك الحقب التاريخية.
هذه الصروح التي كثيرًا ما كان السبب الرئيسي لانجازها هو هوى الحاكم أو الرغبة الشخصية لدى القيادة السياسية لتلك الأمة، ومن أمثلة ذلك لدينا مشروع تشييد تاج محل، هذا المشروع الذي لا يعرف الكثيرون اليوم أنه ليس سوى ضريح للسيدة ممتاز محل إحدى زوجات الإمبراطور الهندي شاه جهان، والتي توفيت خلال وضعها لمولوده الثالث عشر فأمر هذا الأخير بتخليد ذكراها عن طريق تشييد ذلك الضريح بمواصفاته غير العادية، هذا الضريح الذي يعتقد الكثيرون اليوم أنه بني كمسجد لإقامة الصلاة للمسلمين. كما نذكر على سبيل المثال أيضًا مشاريع بناء أهرامات الجيزة في مصر والتي بُنيت تقريبًا لذات السبب.
وبالنظر إلى بنايات حديثة نسبيًا كبرج إيفل وتمثال الحرية أو دون أن نذهب بعيدًا إذا نظرنا فقط إلى مقام الشهيد بمدينة الجزائر، سنلاحظ بشكل جلي التجسيد العملي لفكرة الفاعلية الاقتصادية، حينما تلفت نظرنا الاستغلالات الاقتصادية لهذه الأبنية والمواقع كأقطاب للجذب السياحي، وكمصادر للدخل المستمر، الأمر الذي يجعلها أحد المشاريع المربحة ذات المردودية الاقتصادية المعتبرة، إضافة إلى مردودية ثقافية تتآتى أحيانًا من كون ذلك الصرح عادة ما يشيد تخليدًا لذكرى حدث معين أو شخصية معينة أو حتى إيديولوجيا معينة.
وحتى النشاط الزراعي أو الصناعي اللذان دوما ما يكونان عماد قوة الدولة و المصدر الرئيسي للثروة فإنهما لا يمارسان إلا في ضوء هذا المبدأ مهما كانت الظروف، وإلا فإن كل جهد بشري مبذول لن يكون إلا كزيادة الماء للبحر، مما يجعل هذه حضارة تغرق في عبثية محضة وتدريجيا تنتهي إلى انهيار محتوم ولدينا على سبيل المثال حالة الإتحاد السوفياتي سابقا عندما دخل في برامج تسلحية فوق حاجاته الدفاعية الحقيقية و فوق قدراته التمويلية الحقيقية كذلك لأغراض استعراضية بحتة إبان الحرب الباردة.
وفي هذا الإطار و في الجزائر خاصة كثيرًا ما كنا نستمع إلى حكايات وقصص قديمة عن المزارع الاشتراكية التي كانت تعاني من سوء التسيير، والتي كان العمل فيها خلال مواسم الحرث والبذر يكون على قدم وساق مع توفر معظم الوسائل الضرورية : البذور، الآلات الفلاحية، الري، الأسمدة والمبيدات وكذا اليد العاملة المكونة، والإطارات المشرفة ذات المستوى التكويني العالي، والتي تضمن متابعة المحصول خلال فترة الإنتاج، لكي تصطدم المستثمرة عند حضور موسم الجني بحقيقة عدم قابلية المحصول للتسويق بالتسعيرة التي تضمن تحقيق الأرباح المُسطرة في بداية الموسم، أو حتى تغطي تكاليف الإنتاج في كثير من الأحيان، نتيجة تسجيل الكميات المجنية لفائض يرجح كفة العرض على الطلب، ويتسبب بالتالي في انهيار مروع لسعر السوق، مما يحذو بإدارة المؤسسة في معظم تلك الحالات إلى إيقاف الجني في حالة عدم جدواه الاقتصادية، وفتح المزارع للسكان المحليين وعابري السبيل لأخذ ما يمكن أخذه من باب العمل الخيري، قبل فساد المحصول وسقوطه متحللا من جديد كسماد أرضي عضوي. إن إنجاز دراسة جدوى مسبقة للسوق كان بإمكانها تجنيب المؤسسة مثل هذا السيناريو الكارثي، حيث كانت لتسمح تلك الدراسة بعد تحديد الفاعلين الاقتصاديين وقدراتهم الإنتاجية، ودراسة السوق المستهدف بإعطاء تقييم للمناخ الاقتصادي لهذا الاستثمار أو ذاك، بطريقة تسمح للمؤسسة الفلاحية بحسن اختيار المحصول الأمثل للموسم كمًّا ونوعًا.
ويتجلى هذا المبدأ في الميدان الصناعي بشكل أكثر وضوحًا وحدة، لكنه دومًا ما يُعد “الجانب المنسي” خلال الحديث عن براءات الاختراع، وعند حديثنا عن المنجزات العلمية والابتكارات التكنولوجية الرائعة، فعندما نتحدث عن تلك الأخبار وعن التطور العلمي : ” ناسا اكتشفت … “؛” أبل أطلقت … ” سامسونغ تطور هاتفًا جديدًا … “؛” إطلاق قمر صناعي … ” هذه هي العناوين التي نقرؤها، وما ننفك نقول لأنفسنا : لماذا ليس نحن ؟ لماذا ليس في بلادنا؟ هذا أحد تلك الأسئلة والتعليقات التي تكون دومًا لسان حال كثير من الأفراد اليوم.
إن الحقيقة التي يغفلها هؤلاء، هي أن أي مشروع متطور يقوم به البشر في أي مكان في العالم، لا يتم إلا إذا كانت هنالك ضمانة مدروسة بأنه سيدخل مرحلة جني الأرباح ذات يوم، فمشروع قمر صناعي مثلا قد يبهرنا ونتمنى أن نمتلك قمرًا مشابهًا له في كل دولة من دول العالم الثالث خاصة، ليس شيئًا يصنع للتفاخر بين الأمم، بل هو مشروع تجاري مربح نقوم به إن كانت له جدوى اقتصادية ولا نفعل أبدًا إن لم تكن. ولا يتوقف هذا الأمر على مستوى الرأي العام، بل يمتد ليشمل المستخدمين في القطاعات الصناعية المختلفة، فحين تطلع مجموعة من العمال على تكنولوجيا معينة مستعملة في مكان ما في العالم، والتي توفر راحة للمستخدم، وبالطبع ستوفر مردودًا اقتصاديًا أفضل فإنهم سيسارعون إلى الحكم والاعتقاد بأن وجودها سيكون أمرًا مستحسنًا، وهذا الأمر ليس صحيحًا دائمًا، فقد تكون تلك التكنولوجيا مصممة لطاقة إنتاجية أعلى من الممكن تحقيقها في إطار تلك المؤسسة مثلًا، وبذلك يكون استخدام تلك التكنولوجيا غير مربح بالمطلق، بل سينجم عن ذلك نوع من الضياع المنتظم للمال المستثمر. ولنضرب مثالًا آخر أكثر وضوحًا عن مؤسسة تشتغل في بيئة ذات عمالة رخيصة، تضمن لها طاقة إنتاجية تغطي بها السوق المستهدف وتحقق فائدة معقولة، في حين أن تحولها نحو المكننة وتخلصها من المنظر المنفر والمتخلف لتلك العمالة الرخيصة سيكلفها أعباء إضافية، لا تستطيع تغطيتها عند البيع مع الحفاظ على هامشها الربحي عن طريق رفع السعر، فتجبرها المنافسة على التضحية بجزء من هامشها الربحي، فهل سيكون تحولها نحو المكننة هذا عملًا معقولًا ؟ الجواب بالطبع هو لا، رغم أن مثل هكذا جواب لن يروق لعامة الناس حينما يمرون بأحد مقالع الحجارة مثلًا ويرون الناس تقطع الحجارة بالوسائل اليدوية، فستكون ردة فعلهم الطبيعية هي إنكار المنظر، ووصف المؤسسة بالتخلف وكذا اتهامها بمعاداة التطور وبالفشل، لعلم هؤلاء المسبق بأن العلم والتكنولوجيا يوفران لمثل تلك المهام وسائل وأدوات جد متطورة ومريحة، ولكنهم مع ذلك سيغفلون الجانب الاقتصادي للموضوع في حكمهم هذا، وهو الجانب الذي لا يلتفت إليه الرأي العام عادة بسبب ضعف الوعي الاقتصادي لدى عامة الناس، الأمر لا يقتصر على منطقة واحدة من العالم، ولكنه سيتفاوت من مجتمع إلى مجتمع آخر ومن مجال إلى مجال آخر، تؤثر في ذلك الدعايات والنشاط الإعلامي الهادف في البيئة، مكتوبًا كان أم سمعيًا بصريًا على حد سواء.
تسود هذه الفكرة ذات الطابع الشمولي سائر مناحي حياتنا المعاصرة، بشكل ندركه أو بشكل لا ندركه، سواء تعلق الأمر بتعاملاتنا اليومية، بتعليمنا، بعملنا، بتنقلنا، مع تسجيل تفاوت في هذا الأمر تِبعًا للإيديولوجيا المعتنقة من طرف الجماعة البشرية. هذه الفكرة، وإن كانت منتوجًا فلسفيًا عميقًا، لا تنفك تتغلغل في المستويات العليا لتظهر على شكل ما يعرف بدراسات الجدوى، عندما نتحدث عن تطبيقاتها وتجسدها على المستوى الصناعي أو الزراعي أو حتى البحثي.
تدقيق : مزعاش أكرم