يسدد بونجاح هدفه الأول في شباك السنغال، وتفوز الجزائر بلقب بطلة إفريقيا، ويذهب الخياط لوضع النجمة الثانية على قميص المنتخب. أما بقية الشعب، فيكون ليلهم ضرباً من الخيال، الدوبامين الذي تفرزه أدمغتهم نتيجة فرحة الفوز مماثلٌ لجرعة الأفيون المركزة الصحية، في ظل هذه الفرحة التي يمتزج الجنون فيها بالحب، أرى شيخاً طاعناً في السن، يسأل حفيده بإستهزاء( الفريق فاز بالمال و المجد، وأنت لما تحتفل؟).
حين رأيت المشهد تبادر إلى ذهني هذا السؤال والذي طرحه بالي على بساط المناقشة بما أن الحقيقة هي بنت البحث، والذي فحواه :ما الجامع بين الكرة و مشجعيها؟ وما سر هذا الارتباط الساحر بها؟
لقد حاولت بعض النظريات النفسية البحث عن سبب هذا الارتباط الشرطي السيكولوجي، ومنها السلوكية والتي سنركز عليها في هذا المقال:
1- النظرة السلوكية:
في سنة 1976، نشرت الجمعية الأمريكية لعلم النفس APA دراسةً للسلوك الإنساني فيما يعرف “الفرح بالمجد المنعكس” أو( Basking in reflected glory (b.i.r.g، أجراه عدة أطباء ومختصين على مستوى علم النفس، منهم د.روبيرت كيالديني و د.ريتشارد بوردن. تمت هذه الدراسة على طلاب وطالبات أكثر 300 جامعة حول أمريكا والعالم، وقد وصلوا إلى نتيجة هامة جداً، وهيا في شطرين:
أ- الفرح بلمجد المنعكس(birg).
حيث لاحظ الباحثون برئاسة الدكتور روبرت كيالديني، أنه بعد فوز لاعبِي جامعةِ الطلابِ المعنيّين بالدراسة، يكثرُ ارتداء أقمصة الفريق الفائز، وقول الضمير ‘نحن’، ويتغير لفظ المعنى من فريقنا فاز، إلى نحن فزنا، وهنا وصلوا إلى نتيجة الفرح بالمجد المنعكس، ومفاد هذه النتيجة أن مشجعي الفريق الفائز يرتبطون كالمرآة المنعكسة بمجد فريقهم، والفريق الفائز يصبح في نهاية الأمر هم، فيقولون بمختصر العبارة (نحن فزنا).
ب- قطع الفشل المنعكس (CORFing).
وفي هذا الشقّ تمت الدراسة على طلاب الفريق الخاسر، ابتعد طلاب الجامعات بأنفسهم عن فريق كرة القدم الخاسر، وهو اتجاه يسمى قطع الفشل المنعكس، كان من غير المرجح أن يرتدي المشجعون ملابس مثل القبعات والقمصان التي تدعم الفريق الفاشل، وعندما يُطلب منهم وصف أحداث اللعبة، كانوا أكثر عرضة لاستخدام الضمير الذي يصفونه، وهو الضمير (هم) حيث يركزون على وصف الأحداث مثل ‘لقد ضيعها ‘، ‘المهاجم سبب الخسارة’، ‘الرطوبة هيا سبب خسارتهم’.
في هاته الدراسة تبين أن الأفراد يميلون إلى الارتباط بنجاحات من يعرفونهم من فرقهم، حيث أن فوز فريقهم الذي يشجعونه يعني فوزهم، وهي عملية انتقال المجد، و الجميل أنهم حين يخسر الفريق الذي يشجعونه لا يستخدمون مصطلح (نحن) بل (هم)، ولا يصفون ضعف الفريق، بل أحداث المباراة وكل الأخطاء.
2- سلوك الجمهور الجزائري أنموذجاً
أ- الفرح بالمجد المنعكس و طريقة التعبير عنه :
إن فوز الجزائر بكأس إفريقيا عقبه تعليقات لها دلالات سيكولوجية عميقة تنعكس على حقيقة ذات الفائز، و تجرد لنا وجودياً ذات الخاسر، فمثلا يقول المعلق المشهور دراجي( لقد فزنا و يجهش بالبكاء فرحاً)، وهنا يبدأ المجد الشخصي، حيث انتقل النجاح من الفريق إلى الشعب، لأنهم يمثلونهم، و نجاح فريق من 11 شخص يعني نجاح 40 مليون شخص، ثم يتطور الوضع، وتظهر عند من لديهم نزعات نرجسية صفة التفاخر( كالتعليق الساخر على الفرق الخاسرة)، ومن لديهم نزاعة تشائمية( في قولهم لم تكن المباراة النهائية جميلة وكان يمكن تقديم الأفضل)، ومن لديهم نزعة إلى نظرية المؤامرة ( لقد توقفت طائرة السنغال بغرداية لتعبئة وقود الطائرة، إذا لقد تم شراء المباراة، أو أن الجيش اشترى المبارايات)، عموما تمكنُنا طريقة التعبير عن العرس الكروي في فهم الكثير من سيكولوجية الذات، فملاحظة سلوك الفرد في حالة السلوك الجماهيري، يُترجم لنا الكثير عن شخصيته الحقيقية، إذ الجميع يتخفى حينما يكون في موقف ضعف فردي.1
هنا نلاحظ كيف تم التعبير عن المجد بطرق مختلفة، على حسب الذات الشخصية.
وانتقل هذا الارتباط إلى معظم العرب غير المنافسين، فمنهم من احتفل لتعزيز الروابط، ومنهم من انتقل المجد إليه بسبب الانتماء العربي، وهكذا يجد الشخص أي رابط يمكنه مشاركة المجد.
ب- قطع الفشل المنعكس.
وحينما نتكلم عن الجزائر قبل عام كأنموذج، نحن نتحدث عن الجانب الأخر ‘قطع الفشل المنعكس’.
لقد اصبحت التعليقات في وسائل الإعلام المختلفة كقناة الهداف مثلا تصرخ غضباً بأن سبب فشل المنتخب (وليس سبب فشلهم) هو المدرب الوطني، وبدأت القناة تقارن بين مدرب منتخبهم بمدربات المنتخبات الأخرى، إذ أن المقارنات دوماً تتم مع الفائزين. ثم انتقل تبرير فشل المنتخب الجزائري إلى اللاعبين (محرز لا يلعب كما يلعب في فريقه الأوربي)، وبعد المباريات التي يفشل فيها المنتخب يتم التحدث عن الأحداث( الرطوية، عشب الملعب) حتى أنهم أشادوا بالجيل القديم وبدأوا في جلبهم على القناة، أمثال علي بن شيخ، بلومي وغيرهما. وفي هذا السياق يقول فيكتور فرانكلين في كتابه -الإنسان يبحث عن معنى-:” يجد الإنسان عزاءه في الماضي”.
إن الروابط التي يركز عليها الناس فيما بينهم وبين الآخرين عندما تكون فرح منعكس في كثير من الأحيان تكون صلات تافهة (على سبيل المثال، كونه معجبًا بفريق ناجح أو عضوًا في حزب سياسي فائز أو قريبًا لشخص التقى بشخص مشهور). إنه يسلط الضوء على وجود علاقة إيجابية تافهة بين الفرد والشهرة. ومع ذلك، لا يلزم أن تكون هذه الروابط تافهة، وفي بعض الحالات، قد يحدث الفرح في المجد المنعكس عندما تكون الروابط قوية (على سبيل المثال، الآباء والأمهات حين يفتخرون أمام الجيران بشهادة أبنائهم -إبني دكتور-، أو يظهر قطع اتصال المنعكس الفاشل –لم ينجح الفاشل في البكلوريا، لقد ضيع وقته في اللعب-.
وهناك العديد من النظرات السلوكية حول وصف سيكولوجية الجماهير في مختلف الأحداث الاجتماعية، مثل غوستاف لوبون وغيره. والعالم “بندورا” في سيكولوجية التعلم الإجتماعي يرى أن السلوك أحياناً يكون نمذجة متعملة من وسط الكائن الحي.2
ملاجظة هامة: لا يكون هنا الفرح بالمجد المنعكس عند الشخص الذي خسر كل شيئ حتى نفسه، وأيضاً تقل عند الناجحين المحققين لذواتهم، وقد يكون الفرح بفوز المنتخب ليس بسبب الحاجة للمجد بقدر ما هو نمذجة لسلوك الجماعة، أو رغبة في مشاركة فرحة انفعالية، أو كواجب، فكل إنسان هو ذات منفردة و استثنائية لقاعدة لا وجود لها، وهذا يعني أن قراءتي للنظرية ليست معمّمة بل هيا مجرد وجهة نظر سيكولوجية، من وجهات نظر نفسية متعددة.
وفي عمق معاني نفسية لكرة القدم يقول الباحث السوري توفيق الياسين:
” تعتبر لعبة كرة القدم من العوامل الفعّالة في تحقيق رغبة الإنسان في التعالي والاستقلال والحرية، وتحقيق الاعتراف به ككائن مستقل ومتميز عن الآخرين دون الخروج على القانون، أو الدخول في مهاترات قد لا تخدم المنتصر ولا المهزوم، ويمكن تحقيق ذلك على مدار السنة. أي أن كرة القدم مواجهة، بل حرب حقيقية تحقق اعتراف الآخر بالآخر بلا دماء، إلا ما ندر، وهنا الاعتراف جمعي وليس فرديّ، سواء على المستوى المحلي أو القاري أو الدولي. كرة القدم ممتعة لعشاقها، ولكن الأهم ليست المتعة وإنما تحقيق الذات بالفوز على المنافس!3
عموماً كرة القدم هيا وسيلة للتعبر عن الذات، ولامتصاص بعض الغضب، في عصر عرف لدى العالم ، بعصر الهيستيريا الكروية .
إعداد: بلال مرسلي
تدقيق لغوي: زهير خساني
Discussion about this post