تصوّر أنك أحد المتطوعين لإجراء الدراسة التالية: تستلم صندوق أدوات يحتوي على غسول الفم وشريط ألوان متغير من الورق. وعلى اللاصقة كُتب بعناية ” تحليل اللعاب الذاتي لحمض 5- هيدروكسي إندول أسيتيك”. تتبع التعليمات؛ تغسل الفم وتمد شريط الاختبار إلى اللسان، وعلى الفور، يتحوّل شريط الاختبار من اللون الأزرق إلى لون أخضر مسمرّ. قد يظهر لك أن ما قمت بِه هو تحليل جيني للعاب، إلا أنه في الواقع تحليل وهمي. لكنك لست الشخص الوحيد المخدوع، إذ تفيد الدراسة أن هناك ما يقارب (786) متطوعًا صدقوا أن مجموعة الأدوات المستخدمة كانت اختبارًا جينيا حقيقيًا.
في هذه الدراسة، قام العالم السيكولوجي في جامعة ييل “Woo-Kyong Ahn”، والباحث الزميل من جامعة كولومبيا، “ماثيو. اس لبيوتز”، بإجراء بحث عن الآثار السلبية للاختبار الجيني لحالات الاكتئاب، التي كان معظمها مهملًا نتيجة تزايد شعبية عمل الاختبارات الذاتية للجينات، من أجل تفسير المشاكل الصحية والتنبؤ بها في القرن الواحد والعشرين. أصبح الرأي العام الآن، يميل إلى الاعتقاد بأن الاكتئاب وغيره من الاضطرابات النفسية شأنها شأن الأمراض البدنية تنجم عن الأسباب البيولوجية، مما أدى إلى زيادة الاهتمام بالاختبارات الجينية (الوراثية) في حالة الأشخاص الذين يعانون من الأمراض النفسية.
يقول الدكتور لبيوتز: ” كان هناك أمل في أن تقلل الاختبارات الجينية السلبيات الشائعة حول مشاكل الصحة العقلية”. لكن مع ذلك، فإن الإفصاح عن فوائد الاختبار الجيني فقط، له عواقب وخيمة تؤدي إلى التفاؤل بما تقدمه الاختبارات الجينية. هذه الدراسة التي نشرت مؤخرًا في جامعة ييل تساعد على كشف الجوانب السلبية عاطفيا لهذه التجارب الجينية، والتي غالبًا ما يتم تجاهلها.
قسّم الباحثون المتطوعين إلى ثلاثة مجموعات: مجموعة غير حاملة للجينات الوراثية المسببة للاكتئاب (a depression gene-absent) ومجموعتين أخريتين، حاملة لهذه المورثات (depression gene present). في المجموعات الثلاثة؛ يتغير لون شريط الاختبار إلى اللون البني، لذا نجد أن كل المتطوعين تلقوا نفس النتائج الوهمية. غير أن الباحثين تلاعبوا عشوائيا في النتائج. وقيل للمجموعة التي لا تحمل المورثة، إنها لا تحمل الجينات التي من شأنها أن تجعلها أكثر عرضة للاكتئاب. في حين أن نتائج الاختبار تشير إلى أن كلاً من المجموعات الثلاثة كانت حاملة للجينات المسببة للاكتئاب.
إحدى المجموعتين الحاملة للمورثة، شاهدت مقطعًا مصورا لمداخلة قصيرة يفسّر كيف أن الجينات وحدها لا يمكن أن تجعل الشخص مكتئبا، لأن العديد من العوامل المعقدة- مثل عوامل التخلّق، التي تعمل على تحفيز الجينات أو تثبيطها، وكذا التفاعلات بين العديد من الجينات الأخرى، بالإضافة إلى العوامل البيئية التي تقوم أيضا بدور هام في تطوير حالة الاكتئاب. بينما لم تشاهد المجموعة الثانية أي مقطع، وأخيرا، أتمّت المجموعات الثلاثة جميعها جدولا لتعديل المزاج السلبي ( NMR)، يقيس مدى توقع الشخص أن يكون قادرًا على السيطرة على عواطفه السلبية في المستقبل.
سجّلت المجموعة غير الحاملة للمورّثة نتيجة أعلى من المجموعتين الحاملة لها في اختبار تعديل المزاج السلبي (NMR) بنتيجة أعلى من المجموعتين الحاملة للمورثة. مما يوحي بأن المجموعات الحاملة للمورّثة، شعرت بقدر أقل من الثقة بقدرتها على التغلب على أعراض الاكتئاب عن المجموعة التي لا تحمّل المورثات. بعبارة أخرى، أن الذين يعتقدون أنهم ميّالون وراثيًا إلى الاكتئاب، شعروا بالعجز واليأس في تعديل مزاجهم، واعتبروا أنفسهم أكثر عرضة للاكتئاب. مثلما جاء على لسان :Ahn ” لقد خلقنا أساسا الاكتئاب في ثلاثة دقائق”.
ومما يثير المزيد من التعقيد، أن المجموعة الحاملة للمورثة التي شاهدت الفيديو التعليمي سجلت نتيجة أعلى بكثير في اختبار تعديل المزاج السلبي (NMR) من المجموعة الحاملة للمورثة التي لم تشاهد الفيديو. ويتبين من الاختلاف في نتائج (NMR)، أن الفيديو التعليمي خفّف بالفعل من الآثار التي خلفها الاختبار الجيني على الناس الذين كانوا يعتقدون أنهم ميّالون وراثياً إلى الاكتئاب.
اختبارات الجينات الذاتية المسببة للاكتئاب وغيرها من الاضطرابات العقلية هي بالفعل شائعة بين عامة الناس، ومن المرجح أن تصبح أكثر انتشارا في المستقبل. يعتقد “Ahn” أن شعبية الاختبار الجيني تستمر بالارتفاع، لأنه يعطي أجوبة سهلة وسريعة، حتى وإن كانت خاطئة. ويذكر أيضا: ” أن مثل هذه الاختبارات تمثل وسيلة جيدة لتبسيط العالم المعقد للناس، ولكن المشاكل دائما تأتي من الإفراط بالتبسيط”.
وإن التأكيد على الجوانب الإيجابية لهذه التحاليل وتجاهل العيوب، قد يؤدي أحيانا إلى نتائج مأساوية. على سبيل المثال، أن هذه الاختبارات يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب، لأن النتائج التي تظهر الاستعداد الوراثي للاكتئاب، تزيد من تشاؤم المرضى وتقلل من قدرتهم على مواجهة المرض والتغلب عليه. وهذا جزء من سلبيات هذا الاختبار.
يأمل الباحثون أن تؤدي هذه الدراسة إلى النظر بإمعان حول استخدام التجارب الجينية. يقول ليبويتز: “أودّ أن يستخدم الناس مثل هذه التجارب الجينية بحذر”.
هامش:
يستخدم حمض 5- هيدروكسي إندول أسيتيك لتحديد مستويات السيروتونين في الجسم.
المصدر: هنا
التدقيق: بكار ح.