ماهي أعظم الآلات على الإطلاق؟ في هذا المقال سنستعرض أكثر الآلات تعقيدًا، تطورًا و تأثيرًا، على مرّ العصور. رُغم أن تاريخ الإنسان يحفلُ بالكثير من الاختراعات المذهلة كالعجلة، الكومبيوتر أو تيليسكوب هابل، إلا أن اختيارنا وقع على خمس آلات فقط.
1 – المفاعلات النووية الانشطارية:
المفاعل النووي، أو البطارية النووية كما يحب البعض تسميته، هو أحد أكثر الآلات تعقيدا على وجه الأرض، و أحد مظاهر الثورة العلمية التي وصل إليها الانسان في القرن العشرين.
مثلما يحدث في القنبلة النووية، في المفاعل يحدث التفاعل الانشطاري التسلسلي، حيث تنقسم نواة ثقيلة، عند قذفها بنيوترون محرّرة طاقة عظيمة. النواة الثقيلة إذا تمثل الوقود للتفاعل الانشطاري، و عادة تكون نواة اليورانيوم أو البلوتونيوم. الطاقة الحرارية المتولدة من تفاعل الانشطار تُستخدم لتسخين الماء، و الذي بدوره يتدفق داخل توربينات تقوم إمّا بتحريك مَراوح للدّفع، أو بتحريك مولدات كهربائية.
للمفاعلات النووية عِدّة استخدامات غير إنتاج الطاقة، مثل إنتاج بعض النظائر التي تستخدم لأغراض طبيّة، صناعيّة، أو استخدامات عسكريّة أو أبحاث علميّة. رغم فوائدها، تبقى هذه المفاعلات خطيرة جدا بسبب الاشعاعات الناجمة عن الانشطار، و أكبر دليل هو حادثتي تشيرنوبيل الأكرانية سنة 1986 و فوكوشيما اليابانية سنة 2011. إذا يبقى الجزء الأكثر تعقيدا في المفاعل هو التحكم في التفاعل التسلسلي و عدم خروجه عن السيطرة. بالاضافة إلى هذا، يشكل التخلص من النفايات المشعة التي يخلفها التفاعل تحديا كبيرًا جدّا، إذ أن مدة إشعاعها يمكن أن تستمر إلى قرون من الزمن.
ليس هذا فحسب. إذ تعتبر المفاعلات النووية من أغلى المنشآت على وجه الأرض. مثلا، منشأة هينكلي بوينت سي (Hinkley Point C) النووية قيد الإنشاء في جنوب غرب إنجلترا، يُتوقع أن تغطي حوالي 7% من حاجة إنجلترا للكهرباء، في حين أن تكلفته يتوقع أن تتجاوز 25 مليار دولار.
2 – محطة الفضاء الدولية:
من الطريف أن الآلة الأغلى التي صنعها الانسان على الإطلاق، بتكلفة نهائية تتجاوز 120 مليار دولارا، ليست على سطح الأرض، بل في المدار الأرضي المنخفض. نحن نتكلم عن أكبر مُختبر فضائي مأهول، بمساحة ملعب كرة قدم، يدور بمعدل دورة حول الأرض كل 90 دقيقة. إنها محطة الفضاء الدولية (International Space Station).
محطة الفضاء الدولية هي مشروع مشترك لخمس وكالات فضاء: الأمريكية (NASA)، الروسية (Roscosmos)، اليابانية (JAXA)، الأوروبية (ESA) و الكندية (CSA). تم وضعها على المدار و تركيبها قطعةً قطعة، حيث أن أول جزء منها تم وضعه على المدار في نوفمبر 1998. و منذ سنة 2000 و المحطة مأهولة بشكل مستمر. بعد اكتمال كل أجزاءها، سيتجاوز وزنها 400 طن. بهذه الكتلة و الحجم الهائلين، لن يكون غريبًا إذا سمعت أن المحطة الدولية يمكن أن ترى من سطح الأرض بالعين المجردة.
الهدف الأساسي من المحطة هو أن تكون مختبرًا، مرصدًا و مصنعًا في المدار الأرضي المنخفض. فعلًا، الجاذبية الضعيفة و البيئة العدائية للحياة في الفضاء، تجعل منها مختبر أبحاث استثنائي في ميادين البيولوجيا، الفيزياء، علم الفلك، الأرصاد و غيرها. كما أنها ستعمل كمحطة عبور و صيانة لكل المهمات التي تقصد القمر، المريخ و المذنبات.
رغم أنها ليست أول محطة فضاء، فقد سبقتها محطات أخرى أهمها مير (MIR) الروسية وسكايلاب (Skylab) الأمريكية، إلى أنها الأكبر و الأحدث، كما أنها الوحيدة المأهولة و في إطار الخدمة حاليّا. لكن يُتوقع أن تتوقف عن الخدمة بحلول سنة 2030.
3 – مصادم الهادرونات الكبير:
بلا ريب، إنها الآلة الأكثر تطورًا و تعقيدًا على الإطلاق. تقع هذه الآلة في نفق على امتداد 27 كيلومترًا، على الحدود السويسرية الفرنسية، بالقرب من مدينة جنيف. تستطيع هذه الآلة خلق حزم بروتونية تسير بسرعة 99.99% من سرعة الضوء. نحن نتكلم عن مصادم الهادرونات الكبير (Large Hadron Collider: LHC).
هو أكبر و أقوى و أكثر مُصادِمات الجسيمات تطورًا في العالم. بفضل المغانط فائقة الناقلية في المُصادِم، يتم تسريع حِزم من الجسيمات بسرعة قريبة جدا من سرعة الضوء، ثم سحقها مع بعضها (بطاقة بلغت 13 تيرا إلكترون فولط TEV لكل تصادم في 2015). ينتج عن هذا التصادم الكثير من الجسيمات الأولية التي يتم تسجيل البيانات عنها من طرف سبع كواشف متطورة، و من ثم تقارن هذه البيانات مع تنبؤات النظريات الحالية.
تم بناء مصادم الهادرونات الكبير من طرف المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN) بين سنتي 1998 و 2008. دخل المصادم الخدمة في 10 سبتمبر 2008. يساهم في هذا المشروع آلاف العلماء، مئات الجامعات، و أكثر من مائة دولة حول العالم.
الهدف الأساسي منه هو اختبار صحة تنبؤات النموذج القياسي (Standard Model) لفيزياء الجسيمات، بما في ذلك خصائص بوزون هيغز، و نظريات أخرى مثل التناظر الفائق. كما يعتقد أنه سيمكننا من فهم العلاقة بين ميكانيك الكم و النسبية العامة، و بالتالي الإجابة عن أسئلة لازالت تُؤرق الفيزيائيين مثل ماذا حدث في اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم؟ ماهية المادة المظلمة؟ أين ذهبت المادة المضادة…؟
في 4 جويلية 2012، أعلن المركز الأوروبي للأبحاث النووية عن اكتشافه لجسيم هيغز، آخر جسيم في النموذج القياسي للجسيمات. لقد كان اكتشافه باهضا جدا، إذ قَدر موقع فوربس التكلفة الكلية لاكتشاف هذا الجسيم بحوالي 13.5 مليار دولار.
4 – الكمبيوترات الكمية:
حدثت الثورة الرقمية في النصف الثاني من القرن العشرين، و تمثلت في الانتقال من عصر التكنولوجيا الميكانيكية و التماثلية إلى عصر التكنولوجيا الرقمية. لكن مجيء الكمبيوترات الكمية، سيحدث بلا شك ثورة رقمية ثانية.
الكمبيوترات التقليدية هي كمبيوترات تعتمد أساسا على الترانزستورات، و التي هي عناصر كهربائية يمكن أن تكون في حالتين مختلفتين. انطلاقا من هذه الخاصية، يمكن للكمبيوترات تخزين المعلومات في وحدات تسمى البت (bit)، يمكن أن تأخذ قيمتين، إما 1 أو 0.
لكن الكمبيوترات الكمية تعتمد على وحدات تسمى البت الكمي أو اختصارا كيوبت (qubit). البت الكمي يمكن أن يكون أي نظام كمي له حالتين مختلفتين هو الآخر. لنقل مثلا استقطاب الفوتون الذي يمكن أن يكون أفقيا أو عموديا. لكن ما تضيفه فيزياء الكم هو أن حالة هذا النظام لن تقتصر فقط على أفقي أو عمودي، بل يمكن أن تكون في حالة مزيج بين هاتين الحالتين في نفس الوقت، أفقي و عمودي، و بأي نسب: هذا هو التراكب الكمي.
التراكب الكمي بالإضافة لخاصية التشابك الكمي، تجعل الكمبيوترات الكمية ذات سرعة حسابية رهيبة. كمثال بسيط، فإن كل أنواع التشفير الذي نستعمله اليوم في الاتصالات، حسابات الانترنت، البطاقات الائتمانية… يمكن من حيث المبدأ أن يخترق باستخدام كمبيوتر تقليدي، لكن هذا سيستغرق سنوات كثيرة. على الكمبيوترات الكمية، ستستغرق العملية بضع دقائق على الأكثر، و هو ما سينهي عصر التشفير التقليدي الذي نعرفه. أيضا، ستمكننا هذه الكمبيوترات بإجراء محاكات لأنظمة مقعدة مثل الأنظمة الكمية، و هو ما سيتيح لنا تحكمًا و فهمًا أكبر لعالم الذرات و الجزيئات، و بالتالي تقدما مذهلا في ميادين عديدة كالكيمياء و البيولوجيا و غيرها. لذلك يُعتقد أن هذه الآلات ستحدث ثورة تمس الكثير من المجالات.
في الوقت الحالي، لازال مجال الكمبيوترات الكمية في مهده، حيث كل ما تمكنت منه المخابر هو إجراء حسابات باستخدام عدد صغير جدا من الكيوبت. لكن البحث على الصعيدين النظري و التجريبي يجري على قدم و ساق من أجل التطوير، حيث تتنافس شركات رائدة مثل أي بي أم (IBM)، إينتال (Intel) و غوغل (Google)، و حتى حكومات و جيوش حول العالم.
5 – المفاعل النووي الحراري الدولي:
إنه المشروع الحلم، طاقة نظيفة و لا نهائية، إنه المفاعل النووي الحراري الاختباري الدولي (International Thermonuclear Experimental Reactor : ITER). هو مشروع عملاق، بحثي و هندسي، في مجال الانصهار النووي. يقع (ITER) في جنوب فرنسا، أين يعمل فيه الآلاف من المهندسين و العلماء، حيث تشارك فيه 35 دولة.
رغم تمكن الإنسان من صناعة المفاعلات التي تعمل على تفاعل الانشطار النووي، فإنّ حلم المفاعل النووي الاندماجي ظَلَّ يراوده منذ 1940. هذا راجع لكون الانصهار النووي يتفوق على نظيره الانشطار النووي في عدة نقاط أهمها وفرة الوقود، نفايات أقل سُمِّيّة و أمانٌ أكثر. يحدث الانصهار النووي في الشمس و النجوم، أين تنصهر أنوية الهيدروجين إلى أنوية هيليوم، بفضل درجة الحرارة و قوة الجاذبية الرهيبتين هناك. كما يحدث الانصهار النووي أيضا في أقوى سلاح تدميري صنعه الانسان و هو القنبلة الهيدروجينية، لكن بشكل لا يتم التحكم فيه.
لبلوغ الانصهار النووي في المختبر، ثلاث شروط يجب أن تتوفر: درجة الحرارة العالية (10 أضعاف درجة الحرارة في قلب الشمس)، كثافة كافية من البلازما و احتجازها على هذه الحالة لمدة كافية. هذه الشروط المعقدة التي جعلت من الانصهار النووي بالغ التعقيد من الناحية الهندسية. منذ القرن الماضي، صنع ما يقارب 100 مفاعل نووي انصهاري، حيث تم بلوغ الانصهار النووي فيها، لكن مشكلتها هي أن الطاقة التي تنتجها أقل من الطاقة التي تستهلكها، ما يجعلها غير مجدية من الجانب الاقتصادي.
تعود فكرة مشروع (ITER) إلى 1985، و هو عبارة عن توكاماك (tokamak)، أي آلة بشكل حلقة تعمل باستخدام مجال مغناطيسي قوي جدا على إنشاء و احتجاز بلازما في درجة حرارة عالية جدا. على حسب التقديرات، سيكون أول استخدام للمفاعل سنة 2025، أين يتوقع أن تتجاوز تكلفته 20 مليار دولار. يهدف المشروع إلى إحداث تقدم علمي في مجال الانصهار النووي و البرهان على أنه يمكن أن يكون مصدرا للطاقة، ما سيمهد الطريق في المستقبل لصناعة محطات طاقة تعمل بالانصهار النووي. طريق جديد، هو أيضا معنى نفس الكلمة بالاتينية، ITER.
المراجع: (1)، (2) ، (3) ، (4) ، (5)
تدقيق لغوي: زهير خساني